نموذج من الغلو الأشعري المعاصر في التكفير: بين تكفير مثبت الجلوس، وتكفير منكر العلو…
أرسل لي أحد الأخوة فيديو لشيخ صوفي كبير علاه الشيب اسمه عبد العزيز الخطيب الحسني كان يلقي موعظة الجمعة في جامع الدرويشية في دمشق، وكانت عن خطر الوهابية وقد ذكر في محاضرته أن على الوهابية (يعني السلفية) سبع مآخذ، كل واحدة تكفي لتكفيرهم، وذكر من ذلك إثبات الجلوس لله عز وجل، ونقل عن الإمام الشافعي أنه كفر من يقول أن الله قاعد على العرش.
وقبل أن أعلق على كلامه أود التنبيه على أن أهل الإسلام اتفقوا على استغناء الله عز وجل عن خلقه، وأن كل خلقه مفتقرون إليه وهو الغني الحميد، وأن من أثبت علو الله على العرش قال بأن علو الله عليه علو جلال وتكريم لا علو افتقار للعرش.
كما أن خلقه للخلق إظهار لكماله بكماله لا افتقاراً إليهم بل هم المفتقرون إليه، والذين أخذوا بظواهر نصوص استواء الله على العرش عامتهم لا فرق عندهم بين تفسير الاستواء بالعلو والارتفاع والاستقرار والجلوس، فكله يثبتونه لله على ما يليق بجلاله.
والذين نفوا الظاهر أيضاً لا فرق عندهم بين التفاسير من جهة اعتبارها كلها تجسيماً وتشبيهاً، ولا يختلف الناس أن الجلوس من معاني الاستواء لغة فقد قال تعالى: {لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون}[الزخرف]. وهذا الاستواء علو وارتفاع واستقرار وجلوس، ولكنه في حق المخلوق، وينازع المعطلة في إثبات ذلك للخالق على ما يليق بجلاله.
وقال النسائي في السنن الكبرى في كتاب التفسير قوله تعالى: {ثم استوى إلى السماء} [البقرة: 29]
11401 – أخبرنا قتيبة بن سعيد، عن مالك، عن هلال بن أسامة، عن عطاء بن يسار، عن عمر بن الحكم، قال: أتيت رسول الله, فقلت: يا رسول الله، إن جارية لي كانت ترعى غنما لي، فجئتها وفقدت شاة من الغنم، فسألتها, فقالت: أكلها الذئب، فأسفت عليها، وكنت من بني آدم، فلطمت وجهها وعلي رقبة، أفأعتقها؟ , فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أين الله؟» , قالت: في السماء، قال: «فمن أنا؟» , قالت: أنت رسول الله، قال: «فأعتقها»
11402 – أخبرنا سليمان بن داود، عن ابن وهب، قال: أخبرني ابن جريج، أن أبا الزبير، أخبره، أن عليا الأسدي أخبره، أن عبد الله بن عمر أعلمه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر كبر ثلاثا وقال: {سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون} [الزخرف: 14]، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هون علينا سفرنا هذا، واطو عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في الأهل والمال”
أقول: فالحديث الأول أورده لإثبات العلو، والثاني لبيان معنى الاستواء التفصيلي، وواضح أنه يميل إلى أنه لا ينافي الجلوس بل يؤكده.
والآن مع كلام الشيخ السوري الصوفي:
هذا الشيبة كفر الوهابية بما نسبه لهم من قولهم أن الله قاعد على العرش مستدلاً بأثر ذكره عن الشافعي، وهذا الأثر موجود في بعض كتب الأشعرية المتأخرين بلا إسناد.
فكيف يستبيح تكفير الناس بهذه السهولة بناء على أثر لا إسناد له، وهم معهم روايات يعتمدون عليها، وهذه الروايات لو كانت ضعيفة فهي خير من روايته التي بلا إسناد!
وقد ورد إثبات الجلوس عن جماعة من السلف:
أ-عبد الله بن مسعود رضي الله عنه [رواه الحكم بن معبد في كتاب الرؤية كما في الحد للدشتي 47]
ب-عبد الله بن عباس رضي الله عنهما [أخرجه ابن المحب في الصفات 1/ق106 وأقر به التيمي كما في السير 20/87]
جـ-الحسن البصري (110هـ) [رواه الحكم بن معبد في كتاب الرؤية كما في الحد للدشتي 48 وفتح الحميد 4/1675]
د-عكرمة (106هـ) [رواه الحكم بن معبد في كتاب الرؤية كما في الحد للدشتي 48 وفتح الحميد 4/1675]
هـ-محمد بن كعب (108هـ) [تفسير الطبري 23/21-22]
و-مجاهد بن جبر (103هـ) [السنة للخلال 248 و264]
ز-خارجة بن مصعب (168هـ) [السنة لعبد الله 10 والسنة للخلال1691]
حـ-الأعمش (148هـ) وسفيان (161هـ) ووكيع (197هـ) [السنة لعبد الله 587]
ط-الإمام أحمد (241هـ) وابنه عبد الله (290هـ) [السنة لعبد الله بن أحمد 587]
ي-عبد الوهاب الوراق (251ه) [الحد للدشتي 50 وبيان تلبيس الجهمية 1/453]
ك-عثمان بن سعيد الدارمي (280هـ) [النقض له ص52]
ل-الدارقطني (385هـ) [الحد للدشتي 55 وإبطال التأويلات 2/492]
م-أبو القاسم إسماعيل بن محمد التيمي (535هـ) وأبو موسى المديني (581هـ) [السير 20/87]
ن-أبو عبد الله بن حامد الحنبلي (403هـ) [الروايتين والوجهين ص52]
س-الذهبي (748هـ) [العرش له 2/121]
ع-محمد بن عبد الله بن المحب (789هـ) [الصفات له 1/90ق] (مستفاد من مقال للأخ مأمون السوري)
وما كفر أحد في زمن السلف واحداً من هؤلاء، ولا قال المروي عنهم كفر.
قال شيخ الإسلام الأنصاري الهروي في تفسيره لآية الاستواء: “الاستواء في اللغة جلوس وصعود والاستقرار” ثم رد على قول الجهمية الذين فسروه بالاستيلاء فقال: “والعرش في اللغة العرب يأتي بمعنى”السرير”. وعلى هذا الاعتقاد أئمة أهل السنة والجماعة من لدن مصطفى عليه الصلاة والسلام ومن تبعه بإحسان” هــ (مستفاد من مقال لأبي موسى الروسي)
وقد ورد أثر عن عمر بن الخطاب في إثبات الجلوس: “إن كرسيه وسع السماوات والأرض، وإنه ليقعد عليه”.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “أكثر أهل السنة قبلوه” الفتاوى 16/435
واحتج به الطبري في تفسيره.
قال صالح بن أحمد بن حنبل في مسائله: قال أبي حدث وكيع بحديث إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن خليفة إذا جلس الرب سبحانه على العرش فاقشعر زكريا بن عدي فقال له وكيع وغضب أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون هذه الأحاديث لا ينكرونها”.
وما ذكر أحمد هذا الكلام عن وكيع إلا وهو يقره فهل أحمد ابن حنبل مجسم كافر؟
وقد صحح هذا الخبر الضياء المقدسي في المختارة وقال الذهبي في العرش: “وهذا الحديث صحيح عند جماعة من المحدثين، أخرجه الحافظ ضياء الدين المقدسي في صحيحه، وهو من شرط ابن حبان فلا أدري أخرجه أم لا؟، فإن عنده أن العدل الحافظ إذا حدث عن رجل لم يعرف بجرح، فإن ذلك إسناد صحيح.
فإذا كان هؤلاء الأئمة: أبو إسحاق السبيعي، والثوري، والأعمش، وإسرائيل، وعبد الرحمن بن مهدي، وأبو أحمد الزبيري، ووكيع، وأحمد بن حنبل، وغيرهم ممن يطول ذكرهم وعددهم الذين هم سُرُج الهدى ومصابيح الدجى قد تلقوا هذا الحديث بالقبول وحدثوا به، ولم ينكروه، ولم يطعنوا في إسناده، فمن نحن حتى ننكره ونتحذلق عليهم؟”
وكذلك صححه الدشتي في إثبات الحد، واحتج به ابن القيم في الصواعق المرسلة، وصححه ابن الزاغوني الحنبلي في جزء مستقل، واحتج به الطبراني في كتاب السنة، كما ذكر ذلك الذهبي في العلو.
ومن أخبار صفة الجلوس خبر أسماء بنت عميس “أن جعفرا رضي الله عنهما جاءها إذ هم بالحبشة وهو يبكي، فقالت: ما شأنك؟ قال: رأيت فتى مترفا من الحبشة شابا جسيما مر على امرأة، فطرخ دقيقا كان معها، فنسفته الريح، فقالت: أكلك إلى يوم يجلس الملك على الكرسي فيأخذ للمظلوم من الظالم”. احتج به ابن خزيمة في كتاب التوحيد الذي التزم فيه الصحة.
قال الطبراني في الكبير 1364- حدثنا أحمد بن زهير التستري، حدثنا العلاء بن مسلمة، حدثنا إبراهيم الطالقاني، حدثنا ابن المبارك، عن سفيان بن حرب ، عن ثعلبة بن الحكم ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يقول الله عز وجل للعلماء يوم القيامة، إِذا قعد على كرسيه لقضاء عباده: إني لم أجعل علمي، وحكمي فيكم، إِلا وأنا أريد أن أغفر لكم، على ما كان فيكم ، ولا أبالي.
وقد قوى السيوطي هذا الخبر في اللآليء المصنوعة (1/281): “له طريق لا بأس به قال الطبراني: حدثنا أحمد بن زهير التستري، حدثنا العلاء بن مسلمة، حدثنا إبراهيم بن الطالقاني، حدثنا ابن المبارك، عن سفيان، عن سماك بن حرب، عن ثعلبة بن الحكم “فذكره
قال الحافظ ابن كثير في “تفسيره” ( 3 / 141 ): “إسناده جيد”.
وقد ضعفه الألباني، وأنتم لا تعتدون بالألباني فخذوا بقول الحفاظ، واتركوا الألباني الوهابي الذي ليس بحافظ.
وعليه كيف يستقيم تكفير من تأول وأخذ بأخبار، وبمعنى من معاني الاستواء اللغوية، وقال به جماعة من المفسرين القدامى؟
كيف تقبل رواية عن الشافعي بلا إسناد، ثم تكفر من يأخذ بكل هذه الروايات التي ما من واحدة منها إلا ولها مصححون ومحتجون، وإن لم تصح كلها، فالمعنى اللغوي قائم. فتأمل غلو القوم في التكفير مع كثرة تباكيهم من الوهابية الغلاة المكفرين، ولكن إذا خلا للعديد منهم الجو يصدر منه مثل هذا، والآخرون الذين لا يوافقونه مائة بالمائة، إما يسكتون، أو ينكرون بلطف، مع توقيرهم وتعظيمهم للمتكلم.
وهنا أقف وقفة مع المنتسبين للسلفية من التوافقيين، لعل بعضكم سيستروح لهذا ويقول (انظروا يا أشعرية عندكم غلاة يكفروننا كما أن عندنا غلاة يكفرونكم)
ووالله ما أنصفت إن قلتها، فالذي يكفر الآخذ بظواهر القرآن لا يكون كمن أخذ بالظواهر، وهذا نبيك صلى الله عليه وسلم جعل الإيمان بعلو الله عز وجل فيصلاً بين الإيمان والكفر -كما في حديث الجارية-، وقد قال ابن عمر ما قال في الذين أنكروا القدر. وقل لي بربك ما الفرق بينهم وبين نفاة الصفات خصوصاً العلو، ألا أن يكون نفاة العلو أشد.
وآثار السلف في تكفير منكر العلو أكثر بكثير من آثارهم بإثبات الجلوس.
انظروا إليهم لا يتبرأون من الأشعري المكفر كما تفعلون مع المنتسبين للسلفية. من قوانين بقاء المذاهب ألا يكون أهلها مهتمين برضا المخالفين عنهم أكثر من اجتماعهم مع الموافقين، فإن عكسوا الأمر كانوا معاول هدم، وهذا حال الكثيرين ممن يدعون السلفية، يبني بيد ويهدم بأخرى، والله المستعان.
وإنه لمن المؤسف أن ينتسب إنسان للسلفية وأثر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أحكامه على المخالفين أظهر من أثر كتاب السنة لعبد الله بن أحمد، وخلق أفعال العباد للبخاري.
ثم يتغنى بالإنصاف، وهو ظالم يسوي بين التكفير بالإيمان بالنصوص والتكفير بإنكار ظواهر النصوص، كله عنده باب واحد، ويقرن التكفير بـ(الإلحاد) أو (التشبيه) والتكفير حكم شرعي مبني على الأدلة، فمن كفر بغير دليل ذم، ومن كفر بدليل ما عليه من سبيل، وهناك مسائل خلافية بين العلماء في هذا الباب.