نقض مسلك أشعري في الاستدلال من حال أهل اليمن في القرن السادس

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

قال أبو محمد الطيب بن عبد الله بامخرمة الحضرمي الشافعي الأشعري (870 – 947 هـ) في كتابه قلادة النحر في وفيات أعيان الدهر (4/332): “سيف السنة البريهي
أحمد بن محمد بن عبد الله بن مسعود بن سلمة بن يوسف بن إسماعيل البريهي ثم السكسكي ثم الكندي، المعروف بسيف السنة، الإمام العالم العامل، العابد الورع الزاهد، الفقيه المحدث الأصولي، النحوي اللغوي، ذو التصانيف المفيدة، والكرامات العديدة.
أخذ عن الإمامين: زيد اليفاعي ويحيى بن أبي الخير، وعن الحافظ علي بن أبي بكر العرشاني.
وحج سنة ثمان وخمس مائة، فقرأ «صحيح مسلم» على الشيخ محمد بن الحسين الهروي.
وأخذ عنه جمع من الفضلاء لا يحصون كثرة كمحمد بن مضمون، ويحيى بن فضل، وأحمد بن مقبل وغيرهم.
ولم يكن بعد الشيخ يحيى بن أبي الخير صدرا غيره.
وكان يسكن مدينة إبّ، وإليه انتهت الرئاسة فيها، وقصده الطلبة من أنحاء شتى، وانتفع به العالم، وكان كبير القدر، مشهور الذكر، كثير الاشتغال بالتدريس والنسخ، يبيع في كل عام «بيانا» و «مهذبا» و «كافيا»، وقد يكون معها «تنبيه» أيضا، ثم يرسل بذلك إلى مكة يباع، ويشترى له به ورق ينسخ فيه ما يحتاجه من الكتب، ووقف كتبا كلها على طلبة العلم من أهل السنة، وكتب على كل كتاب منها: [من البسيط]
هذا الكتاب لوجه الله موقوف … بتّا إلى الطالب السني مصروف
كذا اقتصر الخزرجي على هذا البيت، وأظن أن بعده:
ما للأشاعرة الضُلَّال في كُتبي … حق ولا للذي بالزيغ معروف
ولقد أخطأ رحمه الله في جعله الأشاعرة ضُلَّالاً وهم رءوس أهل السنة كما قاله الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وغيره، وإذا كان الشيخ أبو إسحاق، والقاضي أبو بكر الباقلاني، وأبو القاسم القشيري، وأبو حامد الغزالي، وأبو المعالي الجويني، وعزّ الدين بن عبد السلام، وأمثالهم من الأئمة الأعلام ضُلَّالاً .. فيا ليت شعري من هو المصيب!
وبالجملة: فلا ينكر فضل سيف السنة وعلمه وصلاحه، ولكن هذا المعتقد غلب على جل علماء اليمن المتقدمين، وما أظنهم كانوا يوافقون الحنابلة إلا في القول بالصوت والحرف والجهة دون التجسيم والتشبيه”.

أقول: الشاهد اعتراف بامخرمة أن عامة علماء اليمن في ذلك الوقت كانوا على اعتقاد الحنابلة في الصفات (أي أنهم أهل إثبات)، وينفرون من الأشاعرة كما هو ظاهر من كلام السيف البريهي، والعجيب أنه يعدد بعض أعلام الأشعرية ليبين صوابهم وهو يضلل الحنبلية عامتهم، وما اعتقاد الحنبلية إلا اعتقاد إمامهم، فما يساوي هؤلاء الذين ذكرهم أمام أحمد ومعه كل أهل الحديث في زمنه.

ومما يؤكد هذا الاعتراف ما قاله بامخرمة نقلاً عن اليافعي في كلامه عن العمراني: “كان حنبلي العقيدة؛ أي: يقول بالصوت والحرف والجهة كما هو مذهب الحشوية، وكان عليه عقيدة غالب أهل اليمن، حتى أن بعضهم سئل: من أين جاء أهل اليمن هذا الاعتقاد؟ فقال: غرهم صاحب «البيان»، كذا نقله اليافعي عن الشيخ عبد الله الساكن بذي السفال، ولا شك أن أهل اليمن كانوا يعتقدون ذلك من قبل ظهور صاحب «البيان»، وقد رجع اليوم غالبهم أو كلهم عن هذا الاعتقاد، وصاروا كلهم أشعرية بحمد الله تعالى!”.

أقول: دعوى أن كلهم صاروا أشاعرة محل نظر فقد ذكر بهاء الدين الجندي اليمني المتوفى عام 732 (وهو معاصر لابن تيمية) في كتابه السلوك في طبقات العلماء والملوك صراحات بين الحنبلية والأشعرية (من تلاميذ الرازي) في اليمن (وتكفير كل طرف للآخر) في زمن قريب من زمنه، وأن بعضهم رأى مناماً يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: الحق من انتسب لأحمد ابن حنبل.

أذكر هذا الأمر لأن بعض الأشعرية يستدل على فضل مذهبهم بالخبر الوارد في فضل الأشعريين من الصحابة، وهذا تعسف عجيب، فهل يجوز لرجل في القرن الرابع أو الخامس أو السادس أن يستدل على صواب مذهب الحنابلة بحديث (الإيمان يمان والحكمة يمانية)، ربما بعض الأشعرية أو الزيدية يستدل به في الأزمنة المتأخرة، ولو كان استدلالاً صحيحاً لكان يدل على فائدتين متناقضتين بحسب الزمان، ففي القرن السادس يدل على صواب الحنابلة وذم الأشاعرة، وفي وقت اليافعي القرن الثامن يدل على العكس، وهذا مستحيل أن يجمع بين النقيضين، فدلَّ على أن هذا المسلك ضعيف في الاستدلال، ومثله الاستدلال بالمشاهير، ففي وقت معين كان المشاهير عامتهم من أهل الحديث المباينين لطريقة الأشعرية ثم تغير ذلك، ثم عاد للتغير مرة أخرى، فما كان الله ليضل عباده بمسلك يدل على نتائج متناقضة يجعله الكاشف للمذهب الصواب من المذهب الخاطيء، وإنما المسلك الصحيح النظر بما كان عليه الأوائل وأدلة الكتاب والسنة، وقد بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً.