نقد مسلك المطالبين بالعفو عن القتلة في وسائل الإعلام

في

,

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

قال الله تعالى : ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب )

وإن مما ينبغي أن يعيه كل مسلم أن كل التشريعات الإلهية فيها الرحمة والحكمة
والعدل والمصلحة

ومن ذلك حكم القصاص الذي فيه الحياة ، لما يترتب عليه من الأمن وقتل الجرأة
في نفوس الناس على القتل

غير أن العفو عن القاتل أفضل باتفاق أهل العلم

قال الله تعالى : ( وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا
وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)

وقال تعالى: { وأن تعفوا أقرب للتقوى }

وقال أحمد في الزهد 1679: حَدَّثَنَا عبد الصمد حدثنا أَبُو الأَشْهَبِ
قَالَ : سَمِعْتُ الْحَسَنَ ، يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ : اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي
تَقْوَاهَا وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاَهَا.

1680: وَقَالَ الأَشْهَبُ ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ : كَانُوا يَقُولُونَ
: أَفْضَلُ أَخْلاَقِ الْمُؤْمِنِينَ الْعَفْوُ.

ولا بأس بالشفاعة عند ولي المقتول وتذكيره بفضل العفو بل ذلك مستحب

قال الله تعالى : ( مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ
مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا)

غير أنه استحدث في هذا العصر وسائل محدثة في الشفاعة عند ولي المقتول

فمن ذلك تكريس وسائل الإعلام كالقنوات ومواقع التواصل الاجتماعي للضغط
على ولي المقتول وتصوير القاتل بصورة مؤثرة ، وتصوير أبناء المقتول ويحصل ضغط شعبي
وجماعي على ولي المقتول بحيث يجعل في حرج فربما عفا لا تديناً وإنما تحرجاً من هذه
الحملات التي تحمل عليه

وخصوصاً أنه يترتب على مثل هذ الحملات أنه إذا لم يعف طرقته الألسنة باللوم
وما أكثر ما يقول العامة ( كل هؤلاء يطالبونك ولا تعفو ) ! (كل هؤلاء لا قدر لهم عندك
) !

ومن الناس من يقول ( لو عفا عنه من أجل أبنائه أو من أجل والديه الشيخين
الكبيرين ) ! وهكذا

وعدم العفو حق لولي المقتول وسلطان جعله الله له ، وما ينبغي أن ننظر لاقتصاصه
ونترك الجناية ، فيصير الجاني مجنياً عليه

وفي الواقع هذه الطرق المحدثة تترتب عليها مفاسد

الأولى : إيغار صدور الناس على ولي المجني عليه

الثانية : جعل ولي المقتول في حرج

الثالثة : استخدام التصاوير المحرمة

الرابعة : كثرة الكلام في قصة القتل والذي يصحبه كذب كثير فكل حادثة قتل
يصحبها ثلاث روايات أو أربعة

الخامسة : مخالفة هدي السلف في هذه المسألة إذ لم يؤثر عنهم أنهم كانوا
يذهبون إلى ولي المقتول جماعات وزرافات لكي يعفو

وليعلم أن الاقتصاص من الجاني ليس شراً له وإنما هو خير إذ أنه كفارة لما
فعل والقتل من أعظم الذنوب حتى أن القاتل خطأ يصوم شهرين متتابعين

وليعلم أن بعض أهل العلم يرى أن العفو ليس دائماً الأصلح

قال ابن عثيمين في كتاب العلم ص330 :” ولكن ليكن معلومًا لديكم
أن العفو إنما يُحمد إذا كان العفو أحمد، ولهذا قال الله تعالى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا
يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } (الشورى:40) فجعل العفو مقرونًا بالإصلاح، وهل يمكن أن يكون
العفو غير إصلاح؟

الجواب: نعم. قد يكون هذا الذي اجترأ عليك وجنى عليك رجلٌ شرير، معروف
بالشر والفساد، فلو عفوت عنه لتمادى في شره، وفساده، فما هو الأفضل حينئذ، أن نعفو
أو نأخذ بالجريمة؟

الأفضل أن نأخذ بالجريمة؛ لأن في ذلك إصلاحًا.

قال شيخ الإسلام :{ الإصلاح واجب، والعفو مندوب}. فإذا كان في العفو فوات
الإصلاح فمعنى ذلك أننا قدمنا مندوبًا على واجب. وهذا لا تأتي به الشريعة. وصدق رحمه
الله.

وإنني بهذه المناسبة أودّ أن أنبه على مسألة يفعلها كثير من الناس بقصد
الإحسان، وهي أن تقع حادثة من شخص فيهلك بسببها شخص آخر، فيأتي أولياء المقتول فيسقطون
الدية عن هذا الجاني الذي فعل الحادث، فهل إسقاطهم محمود ويعتبر من حسن الخلق أو في
ذلك تفصيل؟ في ذلك تفصيل.

لا بد أن نتأمل ونفكر في حال هذا الجاني الذي وقع منه الحادث هل هو من
الناس المعروفين بالتهور وعدم المبالاة؟ هل هو من الطراز الذي يقول : أنا لا أبالي
أن أصدم شخصًا لأن ديته في الدرج. والعياذ بالله؟

أم أنه رجل حصلت منه الجناية مع كمال التحفظ وكمال الاتزان ولكن الله تعالى
قد جعل كل شيء بمقدار؟ فالجواب: إن كان من الطراز الثاني فالعفو بحقه أولى، ولكن قبل
العفو حتى في الطراز الثاني يجب أن نلاحظ هل على الميت دين؟ إذا كان عليه دين فإنه
لا يمكن أن نعفو.

ولو عفونا فإن عفونا لا يعتبر، وهذه مسألة ربما يغفل عنها كثير من الناس.
لماذا نقول : إنه قبل العفو يجب أن نلاحظ هل على الميت دين أم لا؟ لماذا نقول ذلك؟

لأن الورثة يتلقون الاستحقاق لهذه الدية من الميت الذي أصيب بالحادث ولا
يرد استحقاقهم إلا بعد الدين ولهذا لما ذكر الله الميراث قال : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ
يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } (النساء: من الآية 11) هذه مسألة تخفى على كثير من الناس
وعلى هذا فنقول: إذا حصلت حادث على شخص ما فمات فإنه قبل أن يقدم ورثته على العفو ننظر
في حال المجني عليه فإن كان عليه دين لا وفاء له إلا من الدية فلا عفو؛ لأن الدين مقدم
على الميراث، وإن لم يكن عليه دين نظرنا في حال الجاني فإن كان من المتهورين فترك العفو
عنه أولى، وإن لم يكن منهم نظرنا في ورثة المجني عليه فإن كان غير مرشدين فلا يملك
أحد إسقاط حقهم عن المجني عليه، وإن كانوا مرشدين فالعفو في هذه الحال أفضل”

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم