لما وقعت المناظرة بين الرافضي والسني في موضوع الصفات استدل الطرف السني بأن العجل قد عيب بأنه لا يتكلم ولا يهدي سبيلاً على أن الله عز وجل يتكلم، وهذه حجة حاضرة في كلام علماء أهل السنة من قديم.
قال عثمان بن سعيد الدارمي في «الرد على الجهمية»: “قال {عجلا جسدا له خوار، ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا، اتخذوه وكانوا ظالمين} [الأعراف: 148].
قال أبو سعيد [يعني الدارمي نفسه]: ففي كل ما ذكرنا تحقيق كلام الله وتثبيته نصا بلا تأويل، ففيما عاب الله به العجل في عجزه عن القول والكلام بيان بيِّن أن الله عز وجل غير عاجز عنه، وأنه متكلم وقائل، لأنه لم يكن يعيب العجل بشيء هو موجود به”.
وهذا الضرب من الاستدلال حاضر في كلام ابن خزيمة.
واعترض الطرف الرافضي على الاستدلال، واعترض أيضاً أناس من المعلقين المنتسبين للسنة.
والحق أن الاستدلال بهذا الضرب من الآيات على تحقيق صفات الله عز وجل أمر يُقرُّ به حتى الرافضة، ولا ينازع أحد في جنسه.
قال الطباطبائي في تفسيره «الميزان» [14/57]: “فقوله: {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر} الخ، إنكار توبيخي لعبادته الأصنام وقد عدل من ذكر الأصنام إلى ذكر أوصافها “ما لا يسمع” الخ، ليشير إلى الدليل في ضمن إلقاء المدلول ويعطي الحجة في طي المدعي وهو أن عبادة الأصنام لغو باطل من وجهين: أحدهما أن العبادة إظهار الخضوع وتمثيل التذلل من العابد للمعبود فلا يستقيم إلا مع علم المعبود بذلك، والأصنام جمادات مصورة فاقدة للشعور لا تسمع ولا تبصر فعبادتها لغو لا أثر لها، وهذا هو الذي أشار إليه بقوله: “لا يسمع ولا يبصر”.
وثانيهما: أن العبادة والدعاء ورفع الحاجة إلى شئ إنما ذلك ليجلب للعابد نفعا أو يدفع عنه ضررا فيتوقف ولا محالة على قدرة في المعبود على ذلك، والأصنام لا قدرة لها على شئ فلا تغني عن عابدها شيئا بجلب نفع أو دفع ضرر فعبادتها لغو لا أثر لها، وهذا هو الذي أشار إليه بقوله: “ولا يغني عنك شيئا”.
أقول: فتأمل أنه أثبت العلم لله عز وجل (ويبدو أنه يتأول السمع والبصر بالعلم) من تعيير إبراهيم ﷺ للأصنام بأنها لا تسمع ولا تبصر، فاستفاد صفات المعبود الحق من الحديث عن المعبود الباطل.
وأيضاً أثبت الغنى من قول إبراهيم ﷺ: {ولا تغني عنك شيئاً}.
ولو تأملت في كلام الله عن العجل وكلام إبراهيم عليه الصلاة والسلام عن الأصنام لوجدت الباب واحداً، فالمعبود أيضاً يتكلم بما يهدي به عباده، وكما أن سمعه وبصره ليسا خلقه للسمع والبصر في غيره، فكذلك كلامه ليس خلقه للكلام في غيره.
قال تعالى: {قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحقُّ أن يُتَّبع أمَّن لا يهدِّي إلا أن يُهدى فما لكم كيف تحكمون} [يونس].
قال ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآية: “قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق لأن المعبود يجب أن يكون هاديا ومرشدا لعبادة، خاصة وأنها هداية نحو الحق، في حين أن آلهة المشركين، أعم من الجمادات أو الاحياء، غير قادرة أن تهدي أحدا إلى الحق بدون الهداية الإلهية، لأن الهداية إلى الحق تحتاج إلى منزلة العصمة والصيانة من الخطأ والاشتباه، وهذا لا يمكن من دون هداية الله سبحانه وتسديده”.
أقول: وهداية الله تبارك وتعالى كلام أنزله على خلقه، تلك الهداية الكاملة.
وقال الفيض الكاشاني في «التفسير الصافي» [3/282]: “لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر فيعرف حالك ويسمع ذكرك ويرى خضوعك ولا يغنى عنك شيئا في جلب نفع ودفع ضر”.
يعني أن الله عز وجل كذلك يسمع ذكرك ويرى خضوعك، وعامة كلام مفسريهم لا يخرج عن هذا.
وفي حديث الدجال: «فلا يخفَيَنَّ عليكم أن ربكم ليس بأعور، ألا ما خفي عليكم من شأنه، فلا يخفَيَنَّ عليكم أن ربكم ليس بأعور».
استدل به علماء أهل السنة على أن الله عز وجل بصير بعينين.
فكل نقص يُذكر في المعبودات غير الله يدل على اتصافه بالكمال المقابل سبحانه، وإن اتصف المخلوق بالكمال الناقص، فكان المخلوق يتكلم أو يسمع أو يبصر فالمخلوق معترف بنقصه ونقصه ظاهر.
وأما قول نبي الله إبراهيم ﷺ وهو يخاطب الأصنام: {ألا تأكلون • ما لكم لا تنطقون} فهذا لم يكن مقام استدلال، لأن عبَّادها ما كانوا حاضرين، وإنما كان مقام استهزاء بها، قال الطبري في تفسيره: “فقال لها: {ما لكم لا تنطقون} مستهزئا بها، وكذلك ذكر أنه فعل بها”.
وفي رواية حنبل عن الإمام أحمد: “وقول إبراهيم لأبيه: {يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر} [مريم: 42] فثبت أن الله يسمع ويبصر”.
وقد ذكر عبد الغني هذا الخبر في مناظرات أحمد، ومن العجيب على كثرة ترداد أهمية معرفة ما في كتب الرافضة لم يذكر أحد من المعلقين فيما أعلم هذا.