مهمات في مسائل النفقات

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فإن من الأبواب التي كثر فيها العبث والتلفيق وأكل أموال الناس بالباطل
، في هذا العصر باب النفقات فكان لا بد من تجلية الأمر والتنبيه على أهم المخالفات
المنتشرة في هذا الباب

ونبدأ مع هذا النص المهم للإمام ابن المنذر حيث قال في الأوسط ( 9/
62) :” أجمع عامة أهل العلم على إسقاط نفقة الناشز المانعة نفسها من الزوج

أقول : وهذا الذي استقر عليه عامة مذاهب أهل العلم ، والنشوز له صور من
أهمها اليوم خروج المرأة المطلقة طلاقاً رجعياً من بيت الزوجية بدون رضا الزوج ولا
بأس عليها في ذلك ، فإن ذلك يسقط نفقتها عند عامة أهل العلم

قال الله تعالى :” لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة
مبينة “

فأمرها الله عز وجل بالبقاء ونهى أن تخرج أو تُخرج ، بل رأى بعض أهل العلم
أنه ليس للزوجين أن يتفقا على خروجها لأن ذلك حق لله أمر به

قال مقاتل في تفسيره (1/127) :” فإن خرجن ( إلى أهلهن طائعة قبل الحلول
، فلا نفقة لها) “

قال الشافعي في الأم (5/ 253) :” وكل نكاح صحيح طلق رجل فيه امرأته
مسلمة حرة أو ذمية أو مملوكة فهو كما وصفت في الحرة إلا أن لأهل الذمية أن يخرجوها
في العدة ومتى أخرجوها فلا نفقة لها إن كانت حاملا ولا سكنى كان طلاق زوجها يملك الرجعة
أو لا يملكها”

واعلم رحمك الله أن خروجها من البيت يفوت حق الزوج في إرجاعها متى أراد
، والمطلقة طلاقاً رجعياً لها أحكام الزوجية ما دامت في العدة من النفقة والتوارث ،
وإذا كانت الرابعة فطلقها فليس له أن يتزوج متممة الأربعة إلا بعد أن تنقضي عدتها إجماعاً

والله عز وجل من حكمته أن طول العدة ، وأمر المرأة أن تقر في بيت الزوجية
طوال فترة العدة ، فإن القريب من العين قريبٌ من القلب ، وأمر الزوج بالإنفاق عليها
وهذه مظنة عود الألفة

وخروجها من البيت يفوت كل هذه المصالح ، ولهذا كان حديث فاطمة بنت قيس
الذي أفاد أن المبتوتة لا نفقة لها ولا سكنى إلا أن تكون حاملاً ، موافقاً لمقاصد الشريعة
العامة إذ لا رجاء رجعة للمبتوتة حتى تنكح زوجاً غيره في نكاح رغبة لا نكاح تحليل

بل استقر الاتفاق على أن المرأة لو كانت في عهدة الزوج غير مطلقة وخرجت
من البيت بغير إذنه فلا نفقة لها فكيف بالمطلقة طلاقاً رجعياً

وقال الشافعي في الأم (6/ 228) :” وَلاَ تَجِبُ النَّفَقَةُ لِامْرَأَةٍ
حَتَّى تَدْخُلَ عَلَى زَوْجِهَا أَوْ تُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدُّخُولِ عَلَيْهَا
فَيَكُونُ الزَّوْجُ يَتْرُكُ ذَلِكَ فَإِذَا كَانَتْ هِيَ الْمُمْتَنِعَةَ مِنْ الدُّخُولِ
عَلَيْهِ فَلاَ نَفَقَةَ لَهَا لِأَنَّهَا مَانِعَةٌ لَهُ نَفْسَهَا وَكَذَلِكَ إنْ
هَرَبَتْ مِنْهُ أَوْ مَنَعَتْهُ الدُّخُولَ عَلَيْهَا بَعْدَ الدُّخُولِ عَلَيْهِ
لَمْ يَكُنْ لَهَا نَفَقَةٌ مَا كَانَتْ مُمْتَنِعَةً مِنْهُ “

وقال المرغياني من الحنفية في الهداية المطبوع مع نصب الراية (7/73)
:” وَإِنْ نَشَزَتْ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا حَتَّى تَعُودَ إلَى مَنْزِلِهِ”

وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (32/ 279) وقد سئل عن :” رجل
له امرأة وقد نشزت عنه في بيت أبيها من مدة ثمانية شهور ولم ينتفع بها فأجاب إذا نشزت
عنه فلا نفقة لها وله أن يضربها إذا نشزت أو آذته أو أعتدت عليه “

وقال أيضاً كما في مجموع الفتاوى (32/ 281) :” إذا لم تمكنه من نفسها
أو خرجت من داره بغير إذنه فلا نفقة لها ولا كسوة وكذلك إذا طلب منها أن تسافر معه
فلم تفعل فلا نفقة لها ولا كسوة فحيث كانت ناشزا عاصية له فيما يجب له عليها من طاعته
لم يجب لها نفقة ولا كسوة”

وقال ابن مفلح في الفروع (10/ 339) :” وَمَنْ بَذَلَتْ التَّسْلِيمَ
فَحَالَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَوْلِيَاؤُهَا فَظَاهِرُ كَلَامِ جَمَاعَةٍ لَهَا النَّفَقَةُ
.

وَفِي الرَّوْضَةِ : لَا ، ذَكَرَهُ الْخِرَقِيُّ ، قَالَ : وَفِيهِ نَظَرٌ
، انْتَهَى .

( قُلْت ) : الصَّوَابُ عَدَمُ الْوُجُوبِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ
فِي الْمُقْنِعِ وَالْوَجِيزِ وَغَيْرِهِمَا ، حَيْثُ قَالُوا : وَإِنْ مَنَعَتْ تَسْلِيمَ
نَفْسِهَا أَوْ مَنَعَهَا أَهْلُهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا ، انْتَهَى .

قَالَ فِي الْمُحَرَّرِ : وَلَهَا النَّفَقَةُ مَا لَمْ تَمْنَعْهُ نَفْسَهَا
، لَا مَنَعَهَا أَهْلُهَا ، انْتَهَى .

فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ النَّفَقَةُ عَلَى مَانِعِهَا ، لِئَلَّا
تَسْقُطَ نَفَقَتُهَا مِنْ غَيْرِ مَنْعٍ مِنْهَا ، وَلَمْ أَرَهُ ، وَهُوَ قَوِيٌّ
، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( وَالْقَوْلُ الثَّانِي ) لَهَا النَّفَقَةُ ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ
جَمَاعَةٍ مِنْ الْأَصْحَابِ ، ( قُلْت ) : وَهُوَ ضَعِيفٌ”

وهنا لا بد من وقفة : وهو أن بعض النساء تغاضب الرجل ، فتخرج إلى بيت أهلها
بدون إذنه ، فيغضب ويطلقها ثم تطالبه بعد ذلك بالنفقة ، وقد سقطت نفقتها من قبل الطلاق
فإن الفقهاء استقر قولهم على أن النفقة متعلقةٌ بالتمكين من النفس ، وأما في حال الطلاق
فالنفقة متعلقةٌ بالعدة فلا نفقة بعد انقضاء العدة

وهنا لا بد من تنبيه وهو أن ما يقع بين الزوجين من الخلاف لا يحل بالطرق
المستوردة من الغرب أو المأخوذة من المسلسلات والأفلام ، بل لا بد من الرجوع للطرق
الشرعية

قال الله تعالى :” وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا
حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ
اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا”

قال الشافعي في الأم (6/ 496) : أَخْبَرَنَا الثَّقَفِيُّ عَنْ أَيُّوبَ
بْنِ أَبِي تَمِيمَةَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَة السَّلْمَانِيِّ أَنَّهُ
قَالَ فِي هَذِهِ الآيَةِ { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا
مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } قَالَ جَاءَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ إلَى عَلِيٍّ
رضي الله عنه وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِئَامٌ مِنْ النَّاسِ فَأَمَرَهُمْ عَلِيٌّ
فَبَعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا ثُمَّ قَالَ لِلْحَكَمَيْنِ
: تَدْرِيَانِ مَا عَلَيْكُمَا , عَلَيْكُمَا إنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تَجْمَعَا أَنْ
تَجْمَعَا وَإِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تُفَرِّقَا أَنْ تُفَرِّقَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ
رَضِيت بِكِتَابِ اللَّهِ بِمَا عَلَيَّ فِيهِ وَلِيَ , وَقَالَ الرَّجُلُ أَمَّا الْفُرْقَةُ
فَلاَ . فَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه كَذَبْت وَاَللَّهِ حَتَّى تُقِرَّ بِمِثْلِ
الَّذِي أَقَرَّتْ بِهِ

ثم لا بد من التنبه إلى أن هناك أموراً تقع بين أي زوجين فلا داعي لتضخيم
الأمور

قال مسلم في صحيحه 3639- [63-1469] وحَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى
الرَّازِيُّ ، حَدَّثَنَا عِيسَى ، يَعْنِي ابْنَ يُونُسَ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ
بْنُ جَعْفَرٍ ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: لاَ يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً ، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا
آخَرَ ، أَوْ قَالَ : غَيْرَهُ.

وهذا يدل بقياس العكس على أن المرأة لا تفرك الرجل إن كرهت منه خلقاً أحبت
منه آخر

وقال البخاري في صحيحه 5194 – حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ زُرَارَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَاتَتْ الْمَرْأَةُ مُهَاجِرَةً فِرَاشَ
زَوْجِهَا لَعَنَتْهَا الْمَلَائِكَةُ حَتَّى تَرْجِعَ

أقول : هذا يشمل التي هجرت مضجع زوجها وإن كانت معه بالبيت وتخدمه ، فكيف
بالتي خرجت من البيت كله ولم يتمكن بالاستمتاع بها حتى بالنظر أو الخدمة لا شك أن دخول
هذه في الحديث أولى

ومن هنا لا بد للأولياء أن يكونوا عقلاء ، ولا يجرئوا الزوجات على النشوز
، ثم بعد ذلك يطالبون بالنفقة

وهذا من أكل أموال الناس بالباطل

ومن صور النشوز ما ذكره شيخ الإسلام في جامع المسائل (4/117) حيث قال
:” إذا هَجرها وامتنعَ من وَطْئِها حتى تُصلِّيَ كان محسنًا في الهجر والامتناع،
ولا نفقةَ لها هذه المدةَ، فإنَ الذي فَعَلَه واجبٌ عليه. ويَجبُ عليها أن تُطِيعَه
فيه، وللزوج إلزامُ زوجتِه بتركِ المحرَّمات، وإنَ أمكنَ الوطءُ مع فعلِها، ولهَ أيضًا
إلزامُها بغُسْلِ الجنابةِ وإزالةِ النجاسة، وإن أمكنَ وطؤُها مع الجنابة، وهذا وإن
عُلِّلَ بأن النفسَ تَعَافُ وَطْءَ المرأةِ الجُنُب، فالتي لا تُصلِّي شرٌّ منها، وتركُ
الصلاة شرٌّ مِن فِعْلِ أكثرِ المحرَّمات، إذا كانتْ تطيعُه فيما له أن يُلزِمَها به،
وإن كانتْ ناشزًا فلا نفقةَ لها ما دامتْ كذلك، والله أعلم”

أقول : وعلى هذا من ألزم زوجته بالحجاب الشرعي فأبت عليه فترك جماعها عقوبةً
لها ، فهي ناشز ولا نفقة لها في هذه المدة حتى ترجع

فإن قيل : أليس للمرأة أن تخلع زوجها إذا خافت ألا تقيم حدود الله ؟

قيل : بلى ولكن المختلعة هي التي تفتدي نفسها ولا تطالبه بشيء ، وله أن
يقبل أو يرفض ولا يلزم إلا بحكم حاكم

وقد اختلفوا في إلزام الزوج في حال الخلع بالنفقة ، والذي يدل عليه أن
المعنى أنها هي التي تعطيه فكيف يلزم بنفقة ، والخلع فسخٌ على الصحيح وليس طلاقاً لذا
استقر اتفاق الصحابة على أن المختلعة تعتد بحيضة واحدة

والعلماء كالمتفقين على أن الزوج إذا اشترط عليها أن لا نفقة لها إذا اختلعت
منه ، فقبلت فلا نفقة لها

ثم ليعلم أن النفقة حال الطلاق متعلقةٌ بالعدة ، ولا نفقة بعد انقضاء العدة
تحل لمسلمة ، وإن كانت قوانين بعض البلدان تفرض لها النفقة حتى بعد انقضاء العدة ،
فهذه قوانين جائرة لا يجوز لمسلم أن يستحل بها مال أخيه المسلم ، وإنما تكون النفقة
على الأولاد غير البالغين بالمعروف

قال الطبري في تفسيره (23/ 437) :” ( وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ
لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ ) يقول: وخافوا الله أيها الناس ربكم فاحذروا
معصيته أن تتعدّوا حده، لا تخرجوا من طلقتم من نسائكم لعدتهنّ من بيوتهنّ التي كنتم
أسكنتموهنّ فيها قبل الطلاق حتى تنقضي عدتهنّ”

وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (34/ 75) :” أما جمهور العلماء
كمالك والشافعي وأحمد فعندهم لا نفقة للمعتدة البائن المطلقة ثلاثا وأما أبو حنيفة
فيوجب لها النفقة ما دامت في العدة “

أقول : فخصص النفقة بالعدة ، وكلامه هذا كحكاية الاتفاق

قال ابن كثير في تفسيره (8/ 143) :” وقوله: { لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ
بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ } أي: في مدة العدة لها حق السكنى على الزوج ما دامت
معتدة منه، فليس للرجل أن يخرجها، ولا يجوز لها أيضا الخروج لأنها معتقلة لحق الزوج
أيضًا”

قال السعدي في تفسيره :” فـ { لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ
} مدة العدة، بل يلزمن بيوتهن الذي طلقها زوجها وهي فيها.

{ وَلا يَخْرُجْنَ } أي: لا يجوز لهن الخروج منها، أما النهي عن إخراجها،
فلأن المسكن، يجب على الزوج للزوجة ، لتكمل فيه عدتها التي هي حق من حقوقه.

وأما النهي عن خروجها، فلما في خروجها، من إضاعة حق الزوج وعدم صونه.

ويستمر هذا النهي عن الخروج من البيوت، والإخراج إلى تمام العدة.”

وما قاله العلماء في تقييد النفقة بالعدة ، يدل عليه ظاهر القرآن حيث قال
تعالى :” وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ
حَمْلَهُنَّ”

فجعل أمد النفقة وضع الحمل ، ومعلومٌ أن الحامل تنتهي عدتها بوضع الحمل

ويمكن تلخيص المخالفات المشهورة بنقاط

النقطة الأولى : مطالبة الناشز بالنفقة

النقطة الثانية : خروج المطلقة طلاقاً رجعياً من بيت الزوجية من غير بأس
، ثم مطالبتها بعد ذلك بالنفقة

النقطة الثالثة : استمرار المطالبة بالنفقة حتى بعد انقضاء العدة ، أو
تطويل بعض النساء عدتها لتحصل النفقة

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم