من نفائس شيخ الإسلام الحكمة من عدم تكرار قصة يوسف في القرآن

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

قال شيخ الإسلام في رسالته جواب أهل العلم والإيمان ص8 :

” وَقَوْلُهُ : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } بِالْفَتْحِ
لَمْ يَقُلْ أَحْسَنَ الْقِصَصِ بِالْكَسْرِ وَلَكِنْ بَعْضُ النَّاسِ ظَنُّوا أَنَّ
الْمُرَادَ أَحْسَنُ الْقِصَصِ بِالْكَسْرِ وَأَنَّ تِلْكَ الْقِصَّةَ قِصَّةُ يُوسُفَ
وَذَكَرَ هَذَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ .

ثُمَّ ذَكَرُوا : لِمَ سُمِّيَتْ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ؟

 فَقِيلَ : لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي
الْقُرْآنِ قِصَّةٌ تَتَضَمَّنُ مِنْ الْعِبَرِ وَالْحِكَمِ وَالنُّكَتِ مَا تَتَضَمَّنُ
هَذِهِ الْقِصَّةُ .

وَقِيلَ : لِامْتِدَادِ الْأَوْقَاتِ بَيْنَ مُبْتَدَاهَا وَمُنْتَهَاهَا
.

 وَقِيلَ لِحُسْنِ مُحَاوَرَةِ
يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ وَصَبْرِهِ عَلَى أَذَاهُمْ وَإِغْضَائِهِ عَنْ ذِكْرِ مَا تَعَاطَوْهُ
عِنْدَ اللِّقَاءِ وَكَرَمِهِ فِي الْعَفْوِ .

وَقِيلَ لِأَنَّ فِيهَا ذِكْرَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَالْمَلَائِكَةِ
وَالشَّيَاطِينِ وَالْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْأَنْعَامِ وَالطَّيْرِ وَسِيَرِ الْمُلُوكِ
وَالْمَمَالِيكِ وَالتُّجَّارِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْجُهَّالِ وَالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
وَمَكْرِهِنَّ وَحِيَلِهِنَّ

وَفِيهَا أَيْضًا ذِكْرُ التَّوْحِيدِ وَالْفِقْهِ وَالسِّيَرِ وَتَعْبِيرِ
الرُّؤْيَا وَالسِّيَاسَةِ وَالْمُعَاشَرَةِ وَتَدْبِيرِ الْمَعَاشِ فَصَارَتْ أَحْسَنَ
الْقَصَصِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَعَانِي وَالْفَوَائِدِ الَّتِي تَصْلُحُ لِلدِّينِ
وَالدُّنْيَا .

وَقِيلَ فِيهَا ذِكْرُ الْحَبِيبِ وَالْمَحْبُوبِ .

 وَقِيلَ ” أَحْسَنُ
” بِمَعْنَى أَعْجَبَ .

وَاَلَّذِينَ يَجْعَلُونَ قِصَّةَ يُوسُفَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ مِنْهُمْ
مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ ” الْقَصَصَ ” بِالْفَتْحِ هُوَ النَّبَأُ وَالْخَبَرُ

وَيَقُولُونَ هِيَ أَحْسَنُ الْأَخْبَارِ وَالْأَنْبَاءِ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ
يَظُنُّ أَنَّ الْمُرَادَ أَحْسَنُ الْقِصَصِ بِالْكَسْرِ وَهَؤُلَاءِ جُهَّالٌ بِالْعَرَبِيَّةِ
وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ

وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : { أَحْسَنَ الْقَصَصِ } قِصَّةَ يُوسُفَ وَحْدَهَا
بَلْ هِيَ مِمَّا قَصَّهُ اللَّهُ وَمِمَّا يَدْخُلُ فِي أَحْسَنِ الْقَصَصِ وَلِهَذَا
قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ السُّورَةِ : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إلَّا رِجَالًا نُوحِي إلَيْهِمْ مِنْ
أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا
تَعْقِلُونَ } { حَتَّى إذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا
جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ
الْمُجْرِمِينَ } { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ
حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ
شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } فَبَيَّنَ أَنَّ الْعِبْرَةَ
فِي قَصَصِ الْمُرْسَلِينَ وَأَمَرَ بِالنَّظَرِ فِي عَاقِبَةِ مَنْ كَذَّبَهُمْ وَعَاقِبَتُهُمْ
بِالنَّصْرِ .

وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ قِصَّةَ مُوسَى وَمَا جَرَى لَهُ مَعَ فِرْعَوْنَ
وَغَيْرِهِ أَعْظَمُ وَأَشْرَفُ مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ بِكَثِيرِ كَثِيرٍ وَلِهَذَا
هِيَ أَعْظَمُ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي تُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ ثَنَّاهَا اللَّهُ
أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا وَبَسَطَهَا وَطَوَّلَهَا أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهَا .

 بَلْ قَصَصُ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ
– كَنُوحِ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُرْسَلِينَ – أَعْظَمُ
مِنْ قِصَّةِ يُوسُفَ

وَلِهَذَا ثَنَّى اللَّهُ تِلْكَ الْقَصَصَ فِي الْقُرْآنِ وَلَمْ يُثَنِّ
قِصَّةَ يُوسُفَ

وَذَلِكَ لِأَنَّ الَّذِينَ عَادُوا يُوسُفَ لَمْ يُعَادُوهُ عَلَى الدِّينِ
بَلْ عَادَوْهُ عَدَاوَةً دُنْيَوِيَّةً وَحَسَدُوهُ عَلَى مَحَبَّةِ أَبِيهِ لَهُ
وَظَلَمُوهُ فَصَبَرَ وَاتَّقَى اللَّهَ وَابْتُلِيَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ بِمَنْ
ظَلَمَهُ وَبِمَنْ دَعَاهُ إلَى الْفَاحِشَةِ

فَصَبَرَ وَاتَّقَى اللَّهَ فِي هَذَا وَفِي هَذَا

 وَابْتُلِيَ أَيْضًا بِالْمُلْكِ
فَابْتُلِيَ بِالسَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ فَصَبَرَ وَاتَّقَى اللَّهَ فِي هَذَا وَهَذَا
فَكَانَتْ قِصَّتُهُ مِنْ أَحْسَنِ الْقَصَصِ وَهِيَ أَحْسَنُ مِنْ الْقَصَصِ الَّتِي
لَمْ تُقَصَّ فِي الْقُرْآنِ

فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ يَظْلِمُونَ وَيَحْسُدُونَ وَيَدْعُونَ إلَى الْفَاحِشَةِ
وَيُبْتَلَوْنَ بِالْمُلْكِ لَكِنْ لَيْسَ مَنْ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ مِمَّنْ
اتَّقَى اللَّهَ وَصَبَرَ مِثْلَ يُوسُفَ

وَلَا فِيهِمْ مَنْ كَانَتْ عَاقِبَتُهُ أَحْسَنَ الْعَوَاقِبِ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ مِثْلَ يُوسُفَ .

وَهَذَا كَمَا أَنَّ قِصَّةَ أَهْلِ الْكَهْفِ وَقِصَّةَ ذِي الْقَرْنَيْنِ
كُلٌّ مِنْهُمَا هِيَ فِي جِنْسِهَا أَحْسَنُ مِنْ غَيْرِهَا .

 فَقِصَّةُ ذِي الْقَرْنَيْنِ أَحْسَنُ
قَصَصِ الْمُلُوكِ وَقِصَّةُ أَهْلِ الْكَهْفِ أَحْسَنُ قَصَصِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ
الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ الْفَتْرَةِ . فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ
أَحْسَنَ الْقَصَصِ } يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَا قَصَّهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ أَحْسَنُ مِمَّا
لَمْ يَقُصُّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ قِصَّةَ يُوسُفَ أَحْسَنُ مَا قُصَّ فِي الْقُرْآنِ
.

 وَأَيْنَ مَا جَرَى لِيُوسُفَ
مِمَّا جَرَى لِمُوسَى وَنُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الرُّسُلِ

وَأَيْنَ مَا عُودِيَ أُولَئِكَ مِمَّا عُودِيَ فِيهِ يُوسُفُ

وَأَيْنَ فَضْلُ أُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ وَعُلُوُّ دَرَجَتِهِمْ مِنْ
يُوسُفَ – صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ ؟

وَأَيْنَ نَصْرُ أُولَئِكَ مِنْ نَصْرِ يُوسُفَ ؟ فَإِنَّ يُوسُفَ كَمَا
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ
يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } وَأَذَلَّ اللَّهُ الَّذِينَ
ظَلَمُوهُ ثُمَّ تَابُوا فَكَانَ فِيهَا مِنْ الْعِبْرَةِ أَنَّ الْمَظْلُومَ الْمَحْسُودَ
إذَا صَبَرَ وَاتَّقَى اللَّهَ كَانَتْ لَهُ الْعَاقِبَةُ وَأَنَّ الظَّالِمَ الْحَاسِدَ
قَدْ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِ وَيَعْفُو عَنْهُ وَأَنَّ الْمَظْلُومَ يَنْبَغِي لَهُ
الْعَفْوُ عَنْ ظَالِمِهِ إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ “

أقول : في كلام شيخ الإسلام فوائد نفيسة يشد إليها الرحال

فمنها : أنه قوله تعالى ( أحسن القصص ) معناه أحسن الحديث ، وليس ( القصص
) جمع قصة كما يظن العامة

ومنها : أن قصة يوسف ليست أعظم قصة في القرآن كما يظن بعض العامة بل قصص
الأنبياء الآخرين أعظم عبرة في الجملة

ومنها : أن سبب عدم تكرار قصة يوسف أن الذين عادوه حسدوه لدنيا ولم يعادوه
لدين كبقية الأنبياء الذين ثني ذكرهم في القرآن لعظم أمر الدين

وغيرها من الفوائد الجليلة في كلام الشيخ – رحمه الله تعالى –

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم