قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة (1/44) :
” وكل من أعرض عن الاهتداء بالوحي الذي هو ذكر الله فلا بد ان يقول
هذا يوم القيامة
فإن قيل فهل لهذا عذر في ضلالة إذا كان يحسب انه على هدى كما قال تعالى
(ويحسبون انهم مهتدون )
قيل لا عذر لهذا وامثاله من الضلال
الذين منشأ ضلالهم الاعراض عن الوحي الذي جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم
ولو ظن أنه مهتد فإنه مفرط باعراضه عن اتباع داعي الهدى
فإذا ضل فإنما اتى من تفريطه واعراضه
وهذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة وعجزه عن الوصول اليها فذاك له حكم آخر
والوعيد في القرآن إنما يتناول الاول واما الثاني فإن الله لا يعذب احدا
إلا بعد إقامة الحجة عليه
كما قال تعالى (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) وقال تعالى( رسلا مبشرين
ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل )وقال تعالى في اهل النار (وما ظلمناهم
ولكن كانوا هم الظالمين ) وقال تعالى (أن تقول نفس يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله
وإن كنت لمن الساخرين أو تقول لو ان الله هداني لكنت من المتقين او تقول حين ترى العذاب
لو ان لي كرة فأكون من المحسنين بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين)
وهذا كثير في القرآن “
كلام ابن القيم هذا يحل إشكالاً عظيماً ، وهو الفرق بين المعذور بالجهل
والمعرض
فالمعرض جاهلٌ أيضاً ولكن سبب جهله إعراضه عن الحق وعدم طلبه له ، مع تمكنه
منه ، وهذا مثل المشرك الذي يعيد في بلاد التوحيد ، ولا يطلب التوحيد ولا يسعى إليه
، مع ما يرى من مخالفة أهل التوحيد له ، فهذا غير معذور كما نص عليه ابن القيم
وأما المعذور بالجهل فهو العاجز أن الوصول إلى الحجة ( كما عرفه ابن القيم
) ، وعادة يمثل الفقهاء لهذا بمن نشأ في بادية بعيدة ، أو كان حديث عهد بالإسلام
وقد غلط خلقٌ كثيرون فأدخلوا القسم الأول على الثاني ، ومنهم من أدخل الثاني
على الأول ، وما قاله ابن القيم هو الغاية في التحقيق
علماً بأن الكلام هنا على الحكم الأخروي وأما في الدنيا فكل من عبد غير الله يسمى مشركاً ولا يسمى مسلماً ودليل ذاك أن أهل الفترة لا يسمون مسلمين بإجماع في أدلة أخرى ليس هذا محل بسطها
وهذا في باب التكفير الذي هو الغاية في الوعورة والخطورة ، وكذلك هو الأمر
في باب التبديع
وعلى هذا المعنى يحمل الحديث رواه أبو داود 3573 – حدثنا محمد بن حسان
السمتي ثنا خلف بن خليفة عن أبي هاشم عن ابن بريدة عن أبيه
: عن النبي صلى الله عليه و سلم قال ” القضاة ثلاثة واحد في الجنة
واثنان في النار فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ورجل عرف الحق فجار في الحكم
فهو في النار ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار “
فالنبي صلى الله عليه وسلم نص على أن القاضي الذي لا يعلم بالحق ويحكم
به أنه في النار ، فلم يعذره بجهله فهذا محمول على المعرض عن طلب الدليل
وقال البخاري في صحيحه 7352 – حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ
الْمُقْرِئُ الْمَكِّيُّ حَدَّثَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ
بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ عَمْرِو
بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ
إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وَإِذَا حَكَمَ
فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ قَالَ فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَبَا
بَكْرِ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَقَالَ هَكَذَا حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُطَّلِبِ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ
فهذا محمول على الحاكم الذي اجتهد فوقع منه الخطأ على غير وجه العمد ،
مع تحري الحق وتمام الأهلية فهذا يعذر في خطئه ، بل يؤجر عليه
قال شيخ الإسلام في الرد على الأخنائي ص10 :
” كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في السنن عن بريدة
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال القضاة ثلاثة قاضيان في النار وقاض في الجنة رجل
قضى للناس على جهل فهو في النار ورجل عرف الحق وقضى بخلافه فهو في النار ورجل علم الحق
فقضى به فهو في الجنة
فهذا الذي يجهل وأن لم يتعمد خلاف الحق فهو في النار بخلاف المجتهد الذي
قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد الحاكم
فأخطأ فله أجر
فهذا جعل له أجرا مع خطأه لأنه اجتهد فاتقى الله ما استطاع بخلاف من قضى
بما ليس له به علم وتكلم بدون الاجتهاد المسوغ له الكلام
فان هذا كما في الحديث عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار وفي رواية بغير علم وفي حديث جندب عن
النبي صلى الله عليه وسلم من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ ومن أخطأ فليتبوأ
مقعده من النار “
وقال ابن القيم في طريق الهجرتين ص609 :
” نعم لا بد في هذا المقام من تفصيل به يزول الإشكال وهو الفرق بين
مقلد تمكن من العلم ومعرفة الحق فأعرض عنه ومقلد لم يتمكن من ذلك بوجه والقسمان واقعان
في الوجود فالمتمكن المعرض مفرط تارك للواجب عليه لا عذر له عند الله .
وأما العاجز عن السؤال والعلم الذي لا يتمكن من العلم بوجه فهم قسمان أيضا
أحدهما مريد للهدى مؤثر له محب له غير قادر عليه ولا على طلبه لعدم من يرشده فهذا حكمه
حكم أرباب الفترات ومن لم تبلغه الدعوة الثاني معرض لا إرادة له ولا يحدث نفسه بغير
ما هو عليه فالأول يقول يا رب لو أعلم لك دينا خيرا مما أنا عليه لدنت به وتركت ما
أنا عليه ولكن لا أعرف سوى ما أنا عليه ولا أقدر على غيره فهو غاية جهدي ونهاية معرفتي
والثاني راض بما هو عليه لا يؤثر غيره عليه ولا تطلب نفسه سواه ولا فرق عنده بين حال
عجزه وقدرته وكلاهما عاجز وهذا لا يجب أن يلحق بالأول لما بينهما من الفرق”
قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (16/166) :” وَالْحُجَّةُ قَامَتْ
بِوُجُودِ الرَّسُولِ الْمُبَلِّغِ وَتَمَكُّنِهِمْ مِنْ الِاسْتِمَاعِ وَالتَّدَبُّرِ
لَا بِنَفْسِ الِاسْتِمَاعِ . فَفِي الْكُفَّارِ مَنْ تَجَنَّبَ سَمَاعَ الْقُرْآنِ
وَاخْتَارَ غَيْرَهُ”
فهؤلاء جهال ولكنهم غير معذورين لأنهم معرضون
وقال شيخ في الرد على المنطقيين ص99 :”ولهذا لم يكن إعراض الكفار
عن استماع القرآن وتدبره مانعا من قيام حجة الله تعالى عليهم وكذلك إعراضهم عن استماع
المنقول عن الأنبياء وقراءة الآثار المأثورة عنهم لا يمنع الحجة إذ المكنة حاصلة”
فهؤلاء معرضون كفار ليسوا معذورين ، ومثلهم من يعيش في بلاد التوحيد وهو
مقيم على الشرك ويركن إلى شركه ويعرض عن دعوة الموحدين
قال ابن اللحام في القواعد والفوائد الأصولية ص58 :” جاهل الحكم إنما
يعذر إذا لم يقصر ويفرط في تعلم الحكم، أما اذا قصر أو فرط فلا يعذر جزماً “
وقال السيوطي في الأشباه والنظائر ص200 :” كل من جهل تحريم شيء مما
يشترك فيه غالب الناس لم يقبل، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة
يخفى فيها مثل ذلك”
والسيوطي وابن النحام ليسا على اعتقاد أهل السنة ولكن ذكرتهما لبيان أن هذه المسألة متقررة حتى عند غير أهل السنة
و قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (20/280) :” فَإِنَّ الْعُذْرَ
الْحَاصِلَ بِالِاعْتِقَادِ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بَقَاءَهُ بَلْ الْمَطْلُوبُ زَوَالُهُ
بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَلَوْلَا هَذَا لَمَا وَجَبَ بَيَانُ الْعِلْمِ وَلَكَانَ تَرْكُ
النَّاسِ عَلَى جَهْلِهِمْ خَيْرًا لَهُمْ وَلَكَانَ تَرْكُ دَلَائِلِ الْمَسَائِلِ
الْمُشْتَبِهَةِ خَيْرًا مِنْ بَيَانِهَا. الثَّالِثُ: أَنَّ بَيَانَ الْحُكْمِ وَالْوَعِيدِ
سَبَبٌ لِثَبَاتِ الْمُجْتَنِبِ عَلَى اجْتِنَابِهِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَانْتَشَرَ الْعَمَلُ
بِهَا. الرَّابِعُ: أَنَّ هَذَا الْعُذْرَ لَا يَكُونُ عُذْرًا إلَّا مَعَ الْعَجْزِ
عَنْ إزَالَتِهِ وَإِلَّا فَمَتَى أَمْكَنَ الْإِنْسَانُ مَعْرِفَةَ الْحَقِّ فَقَصَّرَ
فِيهَا لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا”
وقال الشنقيطي في أضواء البيان (7/423) :” أما القادر على التعلم
المفرط فيه .
والمقدم آراء الرجال على ما علم من الوحي . فهذا الذي ليس بمعذور “
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم