قال ابن رجب في الفرق بين النصيحة والتعيير ص7 :” قد بالغ الأئمة
الوَرِعون في إنكار مقالات ضعيفة لبعض العلماء وردِّها أبلغ الردِّ كما كان الإمام
أحمد ينكر على أبي ثور وغيره مقالات ضعيفة تفردوا بها ويبالغ في ردها عليهم هذا كله
حكم الظاهر، وأما في باطن الأمر : فإن كان مقصوده في ذلك مجرد تبيين الحق ولئلا يغتر
الناس بقالات من أخطأ في مقالاته فلا ريب أنه مثاب على قصده ودخل بفعله هذا بهذه النية
في النصح لله ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم .
وسواء كان الذي بين الخطأ صغيراً أو كبيراً فله أسوة بمن رد من العلماء
مقالات ابن عباس التي يشذ بها وأُنكرت عليه من العلماء مثل المتعة والصرف والعمرتين
وغير ذلك .
ومن ردَّ على سعيد بن المسيِّب قوله في إباحته المطلقة ثلاثاً بمجرد العقد
وغير ذلك مما يخالف السنة الصريحة ، وعلى الحسن في قوله في ترك الإحداد على المتوفى
عنها زوجها ، وعلى عطاء في إباحته إعادة الفروج ، وعلى طاووس قوله في مسائل متعددة
شذَّ بها عن العلماء ، وعلى غير هؤلاء ممن أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم ومحبتهم
والثناء عليهم .
ولم يعد أحد منهم مخالفيه في هذه المسائل ونحوها طعناً في هؤلاء الأئمة
ولا عيباً لهم ، وقد امتلأت كتب أئمة المسلمين من السلف والخلف بتبيين هذه المقالات
وما أشبهها مثل كتب الشافعي وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور ومن بعدهم من أئمة الفقه والحديث
وغيرهما ممن ادعوا هذه المقالات ما كان بمثابتها شيء كثير ولو ذكرنا ذلك بحروفه لطال
الأمر جداً”.
أقول : وإليك بعض المواقف التي تزيد كلام ابن رجب إيضاحاً وبياناً وذلك
أن الناس اليوم اشترطوا في الرد على ( السلفي ) إذا زل شروطاً لا تجري على سنن السلف
، وصار عند البعض بيان خطأ المنتسب إلى المنهج السلفي مطلقاً فتنة ، أو سعياً في الفتنة
!
الموقف الأول : قال الخلال في السنة 485- وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
عَلِيٍّ , قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الأَثْرَمُ , قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ
اللَّهِ وَنَحْنُ عَلَى بَابِ عَفَّانَ , فَذَكَرُوا الشَّهَادَةَ لِلَّذِينَ جَاءَ
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ , فَقَالَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : نَعَمْ نَشْهَدُ , وَغَلَّظَ الْقَوْلَ عَلَى مَنْ لَمْ يَشْهَدْ
, وَاحْتَجَّ بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ , وَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بِأَشْيَاءَ فَغَضِبَ حَتَّى
قَالَ : صِبْيَانٌ نَحْنُ لَيْسَ نَعْرِفُ هَذِهِ الأَحَادِيثَ , وَاحْتُجَّ عَلَيْهِ
بِقَوْلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ , فَقَالَ , عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ
مَنْ هُوَ ؟ أَيْ مَعَ هَذِهِ الأَحَادِيثِ.
أقول : عبد الرحمن بن مهدي هو شيخ أحمد وهو من كبار أئمة الجرح والتعديل
، ومع ذلك أطلق فيه أحمد تلك الكلمة التي يظنها من لا يعي الأمر جرحاً ، ولكن الأمر
كما أوضح الأثرم أراد الإمام أحمد أن يبين أن كلمته تلك زلة ما ينبغي أن يعارض بها
الأدلة الشرعية.
الموقف الثاني : قال المروذي في الورع ص119 قلت لأبي عبد الله -يعني أحمد
ابن حنبل- أن الفضيل يروي عنه انه قال لا يزال الرجل في قلوبنا حتى اذا اجتمع على مائدته
جماعة زل عن قلوبنا -يريد أنه تزوج-
قال دعني من بنيات الطريق العلم
هكذا يؤخذ انظر عافاك الله ما كان عليه محمد وأصحابه
ثم قال هو ذا أهل زمانك الصالحون هل تجد فيهم إلا من هو متزوج ثم قال ليتق
الله العبد ولا يطعمهم إلا طيبا لبكاء الصبي بين يدي ابيه متسخطا يطلب منه خبزا افضل
من كذا وكذا يراه الله بين يديه ثم قال هو ذا عبد الوهاب كن مثل هؤلاء لو ترك الناس
التزويج من كان يدفع العدو وقال لي ابو عبد الله صاحب العيال اذا تسخط ولده بين يديه
يطلب منه الشيء اين يلحق به المتعبد الأعزب.
أقول : الإمام أحمد يعرف قدر الفضيل بن عياض العالم الجليل الزاهد ، ولكن
لما كان قوله مخالفاً للنص سماه أحمد ( بنيات الطريق ) ، وبين أن العلم ما جاء عن النبي
صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا بتتبع شذوذات أهل العلم ، ومعارضة النص وكلام من هو
أعرف منهم كما يفعل أهل الزيغ.
الموقف الثالث : قال ابن القيم في الطرق الحكمية (1/ 401) :” وقال
محمد بن زيد المستملي سأل أحمد رجل فقال أكتب كتب الرأي قال لا تفعل عليك بالحديث والآثار
فقال له السائل إن ابن المبارك قد كتبها فقال له أحمد ابن المبارك لم ينزل من السماء
إنما أمرنا أن نأخذ العلم من فوق”.
أقول : الإمام أحمد كان يجل ابن المبارك جداً حتى أنه قال ( ما أخرجت خراسان
مثل ابن المبارك ) ، ومع ذلك لما عارض قوله الدليل قال أحمد (لم ينزل ابن المبارك من
السماء).
الموقف الرابع : قال ابن محرز في تاريخه 366 – وَسَمِعْتُ يَحْيَى بن مَعِيْنٍ،
وَذَكَرَ إِبْرَاهِيْم بن أَبِي اللَّيْث، فذكر منه شَيْئًا لم أحفظه. فقُلْتُ لَهُ:
يا أَبَا زَكَرِيَّا إن أَحْمَد بن حَنْبَل يَخْتَلِفُ إليه وَيَكْتُبُ عَنْهُ؟ فَقَالَ:
لو اختلف إليه ثمانون كلهم مثل مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر ما كَانَ إلا كَذَّابًا.
أقول : ولا يخفى قدر الإمام أحمد عند يحيى بن معين ، ومع ذلك لما استبان
له كذب الرجل لم يرفع رأساً برواية أحمد عنه ، وفي كلمة ابن معين ما يدل على أن التعديل
لا ينفع المجروح جرحاً مفسراً ، ولو كان معدله جليلاً.
الموقف الخامس : قال الذهبي في ميزان الاعتدال (2/ 293) :
” علي بن مسهر، عن صالح بن حيان، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: كان
حى من بنى ليث على ميلين من المدينة، وكان رجل قد خطب منهم في الجاهلية فلم يزوجوه،
فأتاهم وعليه حلة، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كسانى هذه، وأمرني أن أحكم
في أموالكم ودمائكم، ثم انطلق فنزل على تلك المرأة التي كان خطبها، فأرسل القوم إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كذب عدو الله، ثم أرسل رجلا فقال: إن وجدته حيا
فاضرب عنقه، وإن وجدته ميتا فأحرقه، فجاء فوجده قد لدغته أفعى فمات، فحرقه بالنار،
فذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار
تفرد به حجاج بن الشاعر، عن زكريا بن عدي، عنه.
وروى سويد عن علي قطعة من آخر الحديث.
ورواه كله صاحب الصارم المسلول من طريق البغوي، عن يحيى الحمانى، عن علي
بن مسهر، وصححه، ولم يصح بوجه”
أقول : صاحب الصارم المسلول هو شيخ الإسلام ابن تيمية والكل يعلم مدى توقير
الذهبي لشيخ الإسلام غير أن عامة تعقباته على شيخ الإسلام فيها نظر ، وهذا من المواطن
القليلة التي أصاب فيها ، والذهبي عليه مآخذ كثيرة غير أنه هنا وافق منهج السلف
الموقف السادس : قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ كما في مجموعة الرسائل
والمسائل النجدية ( 2/28) :” وما عدا هذا القول لا دليل عليه من كتاب ولا سنة،
ويترتب على الفتوى به من المفاسد ما لا يتسع لذكره هذا الجواب، وليس مع من أفتى به
إلا محض التقليد، وأن العامة تعارفوه فيما بينهم ورأوه لازما فأنت خبير بأن هذا ليس
حجة شرعية، وإنما الحجة الشرعية الكتاب والسنة والإجماع -اتفاق مجتهدي العصر على حكم-
ولا بد للإجماع من مستند،والدليل القياس الصحيح وكذا الاستصحاب على خلاف فيه. فلا إله
إلا الله كم غلب على حكام الشرع في هذه الأزمنة من التساهل في الترجيح، وعدم التعويل
على ما اعتمده المحققون من القول الصحيح. وقد ادعى بعضهم أن شيخنا أفتى بلزوم الرهن
وإن لم يقبض، فاستبعدت ذلك على شيخنا -رحمه الله-؛ ولو فرضنا وقوع ذلك، فنحن بحمد الله
متمسكون بأصل عظيم، وهو أنه لا يجوز لنا العدول عن قول موافق لظاهر الكتاب والسنة لقول
أحد كائنا من كان. وأهل العلم معذورون وهم أهل الاجتهاد كما قال مالك -رحمه الله-:
ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
فتأمل قوله (فاستبعدت ذلك على شيخنا -رحمه الله-؛ ولو فرضنا وقوع ذلك،
فنحن بحمد الله متمسكون بأصل عظيم، وهو أنه لا يجوز لنا العدول عن قول موافق لظاهر
الكتاب والسنة لقول أحد كائنا من كان)، فشيخه هو الإمام محمد بن عبد الوهاب جده ومعلمه
، ومع ذلك لم يقدم قوله على ما يراه حقاً .
الموقف السابع : معلومٌ خدمة ابن قدامة المقدسي لمذهب الإمام أحمد ابن
حنبل ، وتصانيفه في هذا الباب
ومع ذلك لما جاء عن الإمام أحمد
أن الزاني إذا تاب وأراد أن يتزوج الزانية ، فعليه اختبار توبتها بأن يراودها عن نفسها
، فإذا قبلت عدل عن زواجها وعلم أنها لم تتب ، وإذا لم تقبل عرف أنها تابت
وهذا قول ابن عمر واختاره وشيخ
الإسلام وتلميذه ابن القيم
غير أن ابن قدامة رد على هذا القول بقوة مع علمه أنه قول إمام مذهبه فقال
في المغني (9/ 564) :” وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ، أَنَّهُ قِيلَ لَهُ : كَيْف
تُعْرَفُ تَوْبَتُهَا ؟ قَالَ : يُرِيدُهَا عَلَى ذَلِكَ ، فَإِنْ طَاوَعَتْهُ فَلَمْ
تَتُبْ ، وَإِنْ أَبَتْ فَقَدْ تَابَتْ، فَصَارَ أَحْمَدُ إلَى قَوْلِ ابْنِ عُمَرَ
اتِّبَاعًا لَهُ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ ، فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَمُسْلِمٍ أَنْ
يَدْعُوَ امْرَأَةً إلَى الزِّنَى ، وَيَطْلُبَهُ مِنْهَا .
وَلِأَنَّ طَلَبَهُ ذَلِكَ مِنْهَا إنَّمَا يَكُونُ فِي خَلْوَةٍ ، وَلَا
تَحِلُّ الْخَلْوَةُ بِأَجْنَبِيَّةٍ ، وَلَوْ كَانَ فِي تَعْلِيمِهَا الْقُرْآنَ ،
فَكَيْفَ يَحِلُّ فِي مُرَاوَدَتِهَا عَلَى الزِّنَى ، ثُمَّ لَا يَأْمَنُ إنْ أَجَابَتْهُ
إلَى ذَلِكَ أَنْ تَعُودَ إلَى الْمَعْصِيَةِ ، فَلَا يَحِلُّ لِلتَّعَرُّضِ لِمِثْلِ
هَذَا ، وَلِأَنَّ التَّوْبَةَ مِنْ سَائِرِ الذُّنُوبِ ، وَفِي حَقِّ سَائِرِ النَّاسِ
، وَبِالنِّسْبَةِ إلَى سَائِرِ الْأَحْكَامِ ، عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ ، فَكَذَلِكَ
يَكُونُ هَذَا “.
أوردت هذا مع ميلي لمذهب ابن عمر وأحمد ، لبيان منهج السلف ومن سار على طريقهم ممن تأخر في رد أقوال
الفضلاء التي يرونها مخالفةً للدليل
وابن قدامة عنده مخالفات لمنهج السلف كوقوعه في التفويض وتجويزه شد الرحل إلى القبور وقد زلت قدمه في بعض مسائل الإيمان ولكنه هنا خالف طريقة المتعصبين وإن كان في نفس المسألة ما أصاب الحق
الموقف الثامن : قال ابن حبان في صحيحه ذِكْرُ الْخَبَرِ الْمُدْحِضِ قَوْلَ
مَنْ زَعَمَ مِنْ أَئِمَّتِنَا أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ كَانَ بِمَكَّةَ فِي أَوَّلِ
الْإِسْلَامِ، قَبْلَ نُزُولِ الْأَحْكَامِ.
170 – أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْقَطَّانُ،
بِالرَّقَّةِ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ،
عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: أَشْهَدُ لَسَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ،
بِالرَّبَذَةِ، يَقُولُ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِحَرَّةِ الْمَدِينَةِ فَاسْتَقْبَلَنَا أُحُدٌ، فَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ،
مَا يَسُرُّنِي أَنَّ أُحُدًا لِي ذَهَبًا أُمْسِي وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ إِلَّا
أَصْرِفُهُ لِدَيْنٍ»، ثُمَّ مَشَى، وَمَشَيْتُ مَعَهُ، فَقَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ»،
قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، فَقَالَ: «إِنَّ الْأَكْثَرِينَ
هُمُ الْأَقَلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، ثُمَّ قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، لَا تَبْرَحْ
حَتَّى آتِيَكَ»، ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى تَوَارَى، فَسَمِعْتُ صَوْتًا فَقُلْتُ: أَنْطَلِقُ،
ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِي فَلَبِثْتُ
حَتَّى جَاءَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا فَأَرَدْتُ
أَنْ أُدْرِكَكَ*، فَذَكَرْتُ قَوْلَكَ لِي، فَقَالَ: «ذَلِكَ جِبْرِيلُ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي
أَنَّهُ: مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ»،
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ زَنَى، وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: «وَإِنْ زَنَى،
وَإِنْ سَرَقَ».
هذا القول الذي يرده ابن حبان مروي عن الزهري والإمام أحمد ، وابن حبان
في رده عليهم معترفٌ بإمامتهم فلا إفراط ولا تفريط ، ولا يعني هذا إقرار تعقبه على هؤلاء الأئمة ولكن نحن في سياق بيان أن المخالفة لا تعني الحط وابن حبان كان على طريقة ابن كلاب في الصفات
الموقف التاسع : قال المعلمي في كتاب العبادة ص 273 : “وأهل
العلم إذا بلغهم خطأ العالم أو الصالح وخافوا أن يغتر الناس بجلالته ربما وضعوا من
فضله ، وغبروا في وجه شهرته ، مع محبتهم له ومعرفتهم لمنزلته ولكن يظهرون تحقيره لئلا
يفتتن به الناس
ومن ذلك ما ترى في مقدمة صحيح مسلم من الحط الشديد على البخاري في صدد
الرد في اشتراط ثبوت لقاء الراوي لمن فوقه حتى لقد يخيل إلى القاريء ما يخيل إليه ،
مع أن منزلة البخاري في صدر مسلم رفيعة ، ومحبته له وإجلاله أمرٌ معلوم في التاريخ
وأسماء الرجال”.
وما صدر هذا من مسلم سواءً كان يرد على ابن المديني أو على البخاري إلا
حميةً على الدين.
الموقف العاشر : قال ابن أبي خيثمة في تاريخه 2747- حَدَّثَنا أَحْمَدُ
بْنُ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابن أبي ذئب، عَنِ الزُّهْرِيّ، قَالَ: ما رأيت قوما
أنقض لعرى الإسلام من أهل مَكَّة، ولا رأيت قوما أشبه بالنصارى من السائبة – يعني:
الرافضة.
سبب كلمة الزهري هذه في أهل مكة ليس التحاسد بين العلماء كما صور ابن عبد
البر ، وإنما هي الغيرة على السنة لما رآهم متمسكين بفتيا ابن عباس في المتعة والصرف
( ربا الفضل ) وقد حكي عنه الرجوع عنهما ، لما رآهم كذلك خائضين في الفروج والأموال
بما يصادم النص ، متمسكين بزلة عالم أطلق فيهم هذه الكلمة ، ولا يعترض عليه بوجود علماء
من أهل مكة في عصره ، فنصوص الثناء والذم على أهل بلد معين إنما تكون على العموم لا
الأعيان فحديث ( الإيمان يمان ) مثلاً لا يعني انطباقه على كل يماني بعينه.
واستقصاء هذه المواقف يطول ويعسر على مثلي ، والمراد هنا التنبيه والتذكرة
، واعلم رحمك الله أن لمز أهل السنة بكثرة الردود خطة خلفية قديمة.
قال ابن حجر الدرر الكامنة (1/49) : “قال الأقشهري في رحلته في حق
ابن تيمية بارع في الفقه والأصلين والفرائض والحساب وفنون أخر وما من فن إلا له فيه
يد طولى وقلمه ولسانه متقاربان قال الطوفي سمعته يقول من سألني مستفيداً حققت له ومن
سألني متعنتاً نقضته فلا يلبث أن ينقطع فأكفي مؤنته وذكر تصانيفه وقال في كتابه أبطال
الحيل عظيم النفع وكان يتكلم على المنبر على طريقة المفسرين مع الفقه والحديث فيورد
في ساعة من الكتاب والسنة واللغة والنظر ما لا يقدر أحد على أن يورده في عدة مجالس
كأنه هذه العلوم بين عينيه فأخذ منها ما يشاء ويذر ومن ثم نسب أصحابه إلى الغلو فيه
واقتضى له ذلك العجب بنفسه حتى زهى على أبناء جنسه واستشعر أنه مجتهد فصار يرد على
صغير العلماء وكبيرهم قويهم وحديثهم”.
الأقشهري واضح أنه جاهل بمراتب أهل العلم أحمق ، وتأمل كيف أنه ضمن تطاوله
على شيخ الإسلام ينسبه إلى الرد على صغير العلماء وكبارهم ، وبهذا يلمز المميعون أهل
السنة اليوم.
وهذه لعمري المنقبة المنيفة إذ لم يسكت على الباطل لما رآه ، واقتدر على
رده وما ترخص برخصة ، بل أخذ بالعزيمة وقد بقيت كتبه قروناً ينتفع بها الناس قرناً
بعد قرن ، وما عرف عامة الناس الأقشهري
قال الله تعالى : {فَأَمَّا الزَّبَدُ
فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ
يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ}.
وقد نسب الأقشهري شيخ الإسلام إلى الرد على عمر بن الخطاب ، وهذه هي بلية
أهل التقليد منذ زمن فلعل شيخ الإسلام نقل مسألة فيها خلاف بين الصحابة كمسألة (سبي
العربيات من المشركات والكتابيات) فرجح قولاً غير قول عمر ، فقالوا (يرد على عمر).
كقول البعض اليوم (فلان يرد على فلان )
وليس من هدي السلف تسمية الرد العلمي المبني على الأدلة ( تقدماً بين يدي
العلماء ) ، فإن هذه جسارة على النصوص إذ سماها بتسمية قبيحة ، ثم لهذا المعترَض عليه
، أن يصف المعترض بأنه متقدم بين يدي العلماء ، إذ أنه لم ينكر عليه أحد من أهل العلم
لما رد زلة العالم فلان فلماذا ينكر هذا الذي يزعم أنه يوقر العلماء ؟
فإن قال : أنا أنكر جرياً على الأصول، قال له ذاك : وأنا أنكرت زلة العالم
جرياً على الأصول .
قال البخاري في صحيحه 6051- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا
يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ صَلَّى بِنَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ
ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا وَفِي
الْقَوْمِ يَوْمَئِذٍ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ وَخَرَجَ سَرَعَانُ
النَّاسِ فَقَالُوا قَصُرَتْ الصَّلَاةُ وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوهُ ذَا الْيَدَيْنِ فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ
أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتْ فَقَالَ لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تَقْصُرْ قَالُوا بَلْ نَسِيتَ
يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ صَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ
سَلَّمَ ثُمَّ كَبَّرَ فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ
وَكَبَّرَ ثُمَّ وَضَعَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ.
فذو اليدين تقدم للسؤال وفي القوم أبي بكر وعمر فتأمل ! ثم قال :
“بل نسيت” فتأمل هذا أيضاً.
قال البخاري في صحيحه 131 – حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي
مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً
لَا يَسْقُطُ وَرَقُهَا وَهِيَ مَثَلُ الْمُسْلِمِ حَدِّثُونِي مَا هِيَ فَوَقَعَ النَّاسُ
فِي شَجَرِ الْبَادِيَةِ وَوَقَعَ فِي نَفْسِي أَنَّهَا النَّخْلَةُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ
فَاسْتَحْيَيْتُ فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنَا بِهَا فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ النَّخْلَةُ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ
فَحَدَّثْتُ أَبِي بِمَا وَقَعَ فِي نَفْسِي فَقَالَ لَأَنْ تَكُونَ قُلْتَهَا أَحَبُّ
إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِي كَذَا وَكَذَا.
نعم سكت ابن عمر إذ كان أصغر القوم ، ولكن عمر أباه ( وهو أفقه اتفاقاً
) كان أحب لو تكلم ابنه بما فهم ، وفي الخبر أن الصغير أو المفضول ربما أدرك في مسألة
ما مالم يدرك الكبير أو الفاضل.
قال الله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ
النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ
النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.
قال السيوطي في الإكليل ص67:” قوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ
يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} . قال الكيا: يدل على جواز الأمر بالمعروف
مع خوف القتل”.
ليتأمل هذا جيداً الغلاة في المصلحة ، على غير هدى ولا كتاب منير ، وإنما
هو تبرير للمواقف الناشئة عن علل نفسية ، ويجوز أن يأخذ المرء بالرخصة كما لا يخفى
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم