من منهج السلف في التبديع « من وقع في بدعة مكفرة جاهلاً بدع ولم يكفر »

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

قال الإمام اللالكائي في السنة 285 :

 أخبرنا محمد بن المظفر المقرئ،
قال: حدثنا الحسين بن محمد بن حبش المقرئ ، قال : حدثنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي
حاتم ، قال :

 سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل
السنة في أصول الدين ، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار ، وما يعتقدان من ذلك
، فقالا : أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازا وعراقا وشاما ويمنا فكان من مذهبهم..

فذكرا عقيدة طويلة ومنها قولهم : من شك في كلام الله عز وجل فوقف شاكا
فيه يقول : لا أدري مخلوق أو غير مخلوق فهو جهمي . ومن وقف في القرآن جاهلا علم وبدع
ولم يكفر.

أقول : بدعة الواقفة في القرآن يبدو أنها مكفرة عند هؤلاء الأئمة بدليل
قولهم من وقف فهو جهمي ، والجهمية عندهم كفار، فتأمل كيف نصوا على تبديع الواقفي الجاهل
 والذي يحتاج أصلاً إلى تعليم

وهذا معناه أنه لم تقم عليه الحجة، وهذا يدلك على أن المبتدع قد يكون جاهلاً

وليس كل مبتدع قد قامت عليه الحجة ، فمن أهل البدع من لو قامت عليه الحجة
لكان كافراً، ولعل هذا هو سبب تخريج الأئمة لبعض الواقفة ، فهناك عدد قليل لا يبلغ
العشرة من الواقفة خرج لهم في بعض الكتب المشهورة.

وأما الجهمية الصرحاء واللفظية فلم يخرج لواحد منهم في الكتب الستة المشهورة

 وكذلك لا أعرف واحداً في رجال
الكتب الستة ومسند أحمد صح عنه نفي العلو لله عز وجل

 ولا أعرف واحداً من رجال الكتب
الستة صح عنه الإرجاء الغالي الذي يقول صاحبه (الإيمان في القلب فقط)

 ولا أعرف واحداً من رجال الكتب
الستة الثقات صح عنه تكفير الشيخين أو قذف واحدة من أمهات المؤمنين، بل إذا رأيت في
رجال هذه الكتب من يقال عنه ( رافضي ) فاعلم أن رفضه غير رفض الروافض اليوم

 فإن الرافضي في زمن السلف كل من
شتم أبا بكر وعمر وإن لم يصل ذلك إلى التكفير

 بل ربما وصفوا كل من سب صحابياً
بالرافضي كما نص عليه عقيدة حرب الكرماني

 وكذلك أئمة أهل الرأي المشهورين
-وإن كانت بدعتهم غير مكفرة- إلا أنهم لم يخرج لهم في كتب الإسلام المشهورة إخماداً
لذكرهم.

ذكرت هذا لجهل كثيرٍ من طلبة العلم به وظنهم أن السلف لما رووا لأهل البدع
رووا عن كل مبتدع وإن كانت بدعته مكفرة، وليعرف الناس أن هؤلاء ما كان لهم فضل على
الأمة في نقل شيء من السنن النبوية أو الآثار السلفية

 وليعلم أيضاً أن الجاهل قد يبدع.

قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (13/ 361): “و فِي الْجُمْلَةِ
مَنْ عَدَلَ عَنْ مَذَاهِبِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَفْسِيرِهِمْ إلَى مَايُخَالِفُ
ذَلِكَ كَانَ مُخْطِئًا فِي ذَلِكَ بَلْ مُبْتَدِعًا وَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا مَغْفُورًا
لَهُ خَطَؤُه”.

أقول: فسماه (مبتدعاً) مع وجود العذر والتأويل

وفي هذا الكلام من شيخ الإسلام مخالفة صريحة لمن يشترط إقامة الحجة في
(كل) تبديع

 وكلام شيخ الإسلام هذا يحمل على
المخالفة فيما اشتهر فيه الخلاف بين أهل السنة وأهل البدعة أو من كان في أصله من أهل
البدع كالجهمية والمعتزلة والخوارج

 كما قرره الشيخ ربيع في جوابه
في مسألة التبديع

 ولا شك أن هذه الكلمة في (التبديع)
من شيخ الإسلام لا يمكن أن تقال في التكفير فدل على أن الباب في التبديع أوسع منه في
التكفير.

وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (12/ 180): “لَيْسَ كُلُّ
مُخْطِئٍ وَلَا مُبْتَدَعٍ وَلَا جَاهِلٍ وَلَا ضَالٍّ يَكُونُ كَافِرًا؛ بَلْ وَلَا
فَاسِقًا بَلْ وَ لَا عَاصِياً”.

أقول: فسماه مبتدعاً رغم إنه قد لا يكون حتى عاصياً، فدل على أنه لا يشترط
إقامة الحجة في (كل) تبديع.

وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (23/ 356): “فَقَدْ يَكُونُ
كُلٌّ مِنْ الْمُتَنَازِعَيْنِ مُبْتَدِعًا وَكِلَاهُمَاَ جاهِلٌ مُتَأَوِّل”.

أقول: فسماه مبتدعاً رغم كونه متأولاً، فدل على أنه لا يشترط إقامة الحجة
في (كل) تبديع.

قال ابن مفلح في الفروع (12/ 450) :” قَالَ صَاحِبُ الْمُحَرَّرِ
: وَالصَّحِيحُ أَنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ كَفَّرْنَا فِيهَا الدَّاعِيَةَ فَإِنَّا نُفَسِّقُ
الْمُقَلِّدَ فِيهَا ، كَمَنْ يَقُولُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ ، أَوْ أَنَّ أَلْفَاظَنَا
بِهِ مَخْلُوقَةٌ ، أَوْ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ ، أَوْ أَنَّ أَسْمَاءَهُ
مَخْلُوقَةٌ ، أَوْ أَنَّهُ لَا يَرَى فِي الْآخِرَةِ ، أَوْ يَسُبَّ الصَّحَابَةَ
تَدَيُّنًا ، أَوْ أَنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ الِاعْتِقَادِ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ
، فَمَنْ كَانَ عَالِمًا فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْبِدَعِ يَدْعُو إلَيْهِ وَيُنَاظِرُ
عَلَيْهِ فَهُوَ مَحْكُومٌ بِكُفْرِهِ ، نَصَّ أَحْمَدُ صَرِيحًا عَلَى ذَلِكَ فِي
مَوَاضِعَ”.

أقول : والمقلد يعني به الجاهل ، ومن البدع المكفرة عند السلف نفي العلو.

قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (12/ 485) : “وَنَحْنُ نَبْدَأُ
بِمَذْهَبِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ فِيهَا قَبْلَ التَّنْبِيهِ عَلَى الْحُجَّةِ فَنَقُولُ:

 الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ الْإِمَامِ
أَحْمَد وَعَامَّةِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ تَكْفِيرُ الْجَهْمِيَّة وَهُمْ الْمُعَطِّلَةُ
لِصِفَاتِ الرَّحْمَنِ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُمْ صَرِيحٌ فِي مُنَاقَضَةِ مَا جَاءَتْ بِهِ
الرُّسُلُ مِنْ الْكِتَابِ وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ جُحُودُ الصَّانِعِ فَفِيهِ جُحُودُ
الرَّبِّ وَجُحُودُ مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ

 وَلِهَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ الْمُبَارَكِ: إنَّا لَنَحْكِي كَلَامَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَا نَسْتَطِيعُ
أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْجَهْمِيَّة

وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ إنَّهُمْ أَكْفَرُ مِنْ الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى يَعْنُونَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ

 وَلِهَذَا كَفَّرُوا مَنْ يَقُولُ:
إنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ وَإِنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ وَإِنَّ اللَّهَ
لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ وَإِنَّ اللَّهَ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَلَا رَحْمَةٌ
وَلَا غَضَبٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِهِ”.

وشيخ الإسلام يعني أن السلف كفروا بكل واحدة من هذه على حدة ، إذ لا يوجد
شيء في التكفير اسمه (التكفير بالمجموع)، ولا يخفى أن السلف يكفرون من يقول بخلق القرآن
ولو كان مثبتاً للعلو وكذلك العكس.

قال شيخ الإسلام في بيان تلبيس الجهمية (2/45) : “ولا يقدر احد ان
ينقل عن احد من سلف الامة وائمتها في القرون الثلاثة حرفا واحدا يخالف ذلك لم يقولوا
شيئا من عبارات النافية ان الله ليس في السماء والله ليس فوق العرش ولا انه لا داخل
العالم ولا خارجه

ولا أن جميع الامكنة بالنسبة اليه سواء ولا انه في كل مكان او انه لا تجوز
الاشارة الحسية اليه ولا نحو ذلك من العبارات التي تطلقها النفاة لان يكون فوق العرش
لا نصا ولا ظاهرا

 بل هم مطبقون متفقون على انه نفسه
فوق العرش وعلى ذم من ينكر ذلك بأعظم مما يذم به غيره من اهل البدع مثل القدرية والخوارج
والروافض ونحوهم”.

وهذا الذم هو التكفير كما صرح به الشيخ في درء تعارض العقل والنقل
(5/257) :” ولهذا كان السلف والأئمة يتكلمون في تكفير الجهمية النفاة بما لا يتكلمون
به في تكفير غيرهم من أهل الأهواء والبدع

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم