من فقه الصحابة في التعامل مع أئمة الجور

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فهذه إفادة مهمة في موضوع [ فقه الصحابة
في التعامل مع أئمة الجور ] ، هذا الباب الذي غيب عمداً من دعاة السوء .

قال أبو عبيد القاسم بن سلام [ في كتاب
الأموال 1202 ] : حدثنا حجاج ، عن شعبة ، عن قتادة ، قال : سمعت أبا الحكم ، يقول :
أتى ابن عمر رجل ، فقال : أرأيت الزكاة ، إلى من أدفعها ؟ فقال : ادفعها إلى
الأمراء وإن تمزعوا بها لحوم الكلاب على موائدهم .

أقول : فانظر كيف أمر ابن عمر بدفع الزكاة
إلى أئمة الجور ، وإن علمت أنهم ينفقونها في غير مصارفها

وقد صرح في ذلك في عدد من الآثار الثابتة
عنه فهاكها :

قال أبو عبيد [ 1203] : حدثنا معاذ ، عن
حاتم بن أبي صغيرة ، عن رياح بن عبيدة ، عن قزعة ، قال : قلت لابن عمر : إن لي
مالا ، فإلى من أدفع زكاته ؟ فقال : ادفعها إلى هؤلاء القوم . يعني الأمراء .

قلت : إذا يتخذون بها ثيابا وطيبا . فقال :
وإن اتخذوا بها ثيابا وطيبا ، ولكن في مالك حق سوى الزكاة

وقال : [ 1201] : حدثنا حجاج ، عن ابن
جريج ، عن عطاء ، عن ابن عمر ، قال : ادفعوا الزكاة إلى الأمراء . فقال له رجل : إنهم
لا يضعونها مواضعها . فقال : وإن .

أقول : حجاج هو ابن محمد المصيصي ، وعطاء
هو ابن أبي رباح

ولما لم ترق هذه الآثار الصحيحة لبعض
الباحثين ، أخذ يزعم أن ابن عمر تراجع عن فتياه هذه

واحتج على دعواه بما روى أبو عبيد في
الأموال [1197 ] قال : حدثنا معاذ ، عن ابن عون ، عن أنس بن سيرين ، قال : كنت عند
ابن عمر ، فقال رجل : ندفع صدقات أموالنا إلى عمالنا ؟ فقال : نعم . فقال : إن
عمالنا كفار . قال : وكان زياد يستعمل الكفار . فقال : لا تدفعوا صدقاتكم إلى
الكفار .

أقول : وهذا خارج محل النزاع ، فإن فتيا
ابن عمر الأولى في أئمة الجور من المسلمين ، وهذه في دفع الزكاة إلى الكفار .

واحتج أيضاً بما روى أبو عبيد في الأموال[
1212 ] قال : حدثنا هشيم ، عن عبد الرحمن بن يحيى ، عن حبان بن أبي جبلة ، عن ابن
عمر ، أنه رجع عن قوله في دفع الزكاة إلى السلطان ، وقال : ضعوها في مواضعها

أقول : وهذا الخبر هو حجة الخطيب البغدادي
في دعوى تراجع ابن عمر عن مذهبه في دفع الزكاة إلى أئمة الجور ، والتي اعتمد عليها
بعض الباحثين الحركيين .

ولا حجة في الخبر لأن في إسناده ضعفاً
وذلك من وجهين :

الأول : عنعنة هشيم وقد كان مدلساً ، ذكره
 ابن حجر في المرتبة الثالثة من مراتب
المدلسين ، وإن كان الأمر عندي في عنعنته غير هذا إلا أنني ألزمهم بمنهجهم

الثاني : حبان – بفتح الحاء – مصر مصري
وابن عمر مدني ، وحبان لم يسمع من أنس بدليل أنه يروي عنه بواسطة.

قال إبراهيم الحربي في غريب الحديث[ 942 ]
: حدثنا أبو الوليد ، حدثنا حبان بن أبي جبلة ، حدثنا حميد ، عن أنس : أنه كان
يكره أن يلقي النوى على الطبق الذي فيه التمر .

أقول : فإذا كان لم يسمع أنساً ، فهو لم
يسمع ابن عمر فإن ابن عمر أقدم وفاةً من أنس ، والتباعد القطري يقوي دعوى الإرسال

ومما استدلوا به على رجوع ابن عمر – رضي
الله عنهما – :

ما روى عبد الرزاق في مصنفه [ 6928 ] : عن
محمد بن راشد قال : أخبرني أبان قال : دخلت على الحسن وهو متوار زمان الحجاج في
بيت أبي خليفة فقال له رجل : سألت ابن عمر أدفع الزكاة إلى الأمراء ؟

فقال ابن عمر : ضعها في الفقراء والمساكين
، قال : فقال لي الحسن : ألم أقل لك : إن ابن عمر كان إذا أمن الرجل قال : ضعها في
الفقراء والمساكين .

أقول : الراوي عن ابن عمر مبهم ، فلا يحتج
بخبره ، وقول الحسن [ كان إذا أمن الرجل ] له مفهوم أي إذا لم يأمن فإنه يدفع
الزكاة إلى أئمة الجور ، ولو وضعوها في غير مصارفها

ثم إن الحسن لم يسمع من ابن عمر .

قال العلائي في جامع التحصيل : وقال علي
بن المديني رأى الحسن أم سلمة ولم يسمع منها ولا من أبي موسى الأشعري ولا من
الأسود بن سريع ولا من الضحاك بن سفيان ولا من جابر ولا من أبي سعيد الخدري ولا من
بن عباس ولا من عبد الله بن عمر. اهــ

وأثبت أبو حاتم سماع الحسن من ابن عمر ،
ونفاه الحاكم .

أبان في هذا السند مهمل ، والذين رووا عن
الحسن واسمهم أبان ثلاثة

1- أبان بن يزيد العطار وهو ثقة.

2- أبان بن أبي عياش وهو متروك .

3- أبان بن صالح وهو ثقة .

ولم يذكر محمد بن راشد الكحولي في تلاميذ
أحدٍ منهم ، ويحتمل أن يكون هو المتروك .

وليس هذا مذهب ابن عمر وحده بل مذهب جمع
من فقهاء الصحابة

قال أبو عبيد في الأموال [ 1194 ] : حدثنا
إسماعيل بن إبراهيم ، وأبو معاوية ، كلاهما عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، قال :
سألت سعد بن أبي وقاص ، وأبا هريرة ، وأبا سعيد الخدري ، وابن عمر ، فقلت :

إن هذا السلطان يصنع ما ترون ، أفأدفع
زكاتي إليهم ؟ قال : فقالوا كلهم : ادفعها إليهم

أقول : فانظر إلى قوله [ يصنع ما ترون ] وما
فيه من الدلالة على أن الحكام في زمنهم كانوا يجورون ويحكمون بغير ما أنزل الله ،
ويضعون الزكاة في غير مواضعها .

فلم يكفرهم الصحابة ولم يمنعوا حقهم الذي
جعل الله لهم ، ثم هم مسئولون عما ولوا عليه

فقارن هذا الفقه العميق ، بثورات [ الخبز ]
و [ الديمقراطية ] التي تحصل اليوم !!

واعلم رحمك الله أن الخارجي ، إذا خرج على
الحاكم الكافر ، من أجل أمر الدنيا ، فإن ذلك لا ينفي عنه اسم الخروج البدعي ، لأن
هذا الحاكم لو كان مسلماً واستأثر بالمال لخرج عليه هذا الخارجي

وقد كان بعض الناس قديماً يقيسون الحكام
على الطائفة الممتنعة [ وهي التي تقاتل على ترك شريعة من شرائع الإسلام ] ،
ليتوصلوا إلى تكفيرهم .

فما حكم من يعرض حياته للخطر من أجل [ الحرية
] و [ الديمقراطية ] عندهم ؟

ثم إن بعض مواجهة قوات الأمن ، بالصدور
العارية ، وبالأيدي الخالية ، مع كون هذه القوات مدججة بكافة أنواع الأسلحة يعتبر
محاولة انتحار ، والواقع يدل على ذلك فقد وقع عشرات القتلى في هذه الثورات

والانتحار لا يجوز في الشريعة الإسلامية
قال الله تعالى :{ ولا تقتلوا أنفسكم إن الله بكم رحيماً}

فإن احتججت بقصة الغلام أحلناك على جواب ابن
عثيمين في شرح رياض الصالحين حيث قال [ 1/ 222] :

فأما ما يفعله بعض الناس من الانتحار،
بحيث يحمل آلات متفجرة ويتقدم بها إلى الكفار ، ثم يفجرها إذا كان بينهم ، فإن هذا
من قتل النفس والعياذ بالله .

ومن قتل نفسه فهو خالد مخلد في نار جهنم
أبد الآبدين كما جاء في الحديث، عن النبي صلى الله عليه وسلم

لأن هذا قتل نفسه لا في مصلحة الإسلام ،
لأنه إذا قتل نفسه وقتل عشرةً أو مائة أو مائتين ، لم ينتفع الإسلام بذلك ، فلم
يسلم الناس ، بخلاف قصة الغلام ، فإن فيها إسلام كثير من الناس ، فكل من حضر في
هذا الصعيد أسلموا ، أما أن يموت عشرةٌ أو مائة أو مائتان من العدو ، فهذا لا
يقتضي إسلام الناس ، بل ربما يتعنت العدو أكثر ويوغر صدره هذا العمل حتى يفتك
بالمسلمين أشد الفتك . اهــ كلامه  .

أقول : هذا الذي قاله ابن عثيمين في
العمليات الانتحارية ينطبق من باب أولى على حال المتظاهرين العزل , فإنهم لا
يحملون سلاحاً ولو حملوه لصارت حرباً تسفك فيها أنهار الدماء من أجل الدنيا كما في
بعض البلدان ، وهم لا يقتلون أحداً من الأعداء ، بل لا يقتلون إلا أنفسهم.

ثم إنهم خارجون من أجل الديمقراطية
والحرية ومعرضون أنفسهم للهلاك من أجلها , فهم منتحرون ولا أقول مقاتلين تحت راية
عمية من مات تحتها فقد مات ميتة جاهلية كما جاء في الحديث .

والخلاصة : أننا إذا قلنا أن العمليات
الانتحارية محرمة [ وهذا الحق الذي لا محيد عنه ] فالانتحار بالتعرض لقوات الأمن
من باب أولى .

تنبيه : نبه أبو عبيد القاسم بن سلام : على
أن المقصود من الآثار الواردة في وجوب دفع الزكاة إلى ولي الأمر , زكاة الأموال
الظاهرة وهي الزروع والأنعام , وهي التي كان يبعث لها الولاة الجباة , وأما زكاة
الأموال الباطنة وهي الذهب والفضة فلا تتناولها الآثار , والمسلم فيها مخير بين
دفعها إلى ولي الأمر أو إنفاقها بنفسه .

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه
وسلم