من فقه البخاري في ترجمة معاوية بن أبي سفيان في التاريخ الكبير..
التاريخ الكبير للبخاري كتاب ترجم فيه لعامة الرواة والصحابة وكان في الغالب ينبه على ضعف الضعيف ونكارة روايات المجاهيل وعلل أخبار الثقات المشهورة، فكان كتابًا عجبًا.
وإذا ترجم لرجل صالح يذكر شيئًا من شمائله، غير أنه إذا مرَّ على ثقة مشهور لا يطنب في الحديث عنه حتى أن ترجمة الشافعي في كتابه في سطر واحد: “73 – محمد بن إدريس أبو عبد الله الشافعي القرشي سكن مصر مات سنة أربع ومائتين سمع مالك بن أنس، حجازي”. وكذلك ترجمة أحمد ابن حنبل مختصرة جدًّا، وإنما يذكر البخاري شمائل الصالحين من التابعين ممن قد يجهلهم المرء.
وتراجم الصحابة أيضًا على الاختصار، غير أننا نجده حين ترجم لمعاوية بن أبي سفيان جعل ترجمته أوسع من ترجمة الخلفاء الراشدين.
فخذ مثالًا ترجمة علي بن أبي طالب: “علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم أبو الحسن القرشى رضى الله عنه، قتل في رمضان بالكوفة سنة أربعين، قال يحيى بن بكير عن ليث عن أبي الأسود عن عروة قال: أسلم علي رضى الله عنه وهو ابن ثمان سنين، وقال محمد بن الصلت عن ابن عيينة عن جعفر عن أبيه قال: قتل علي وهو ابن ثمان وخمسين رضي الله عنه رضى الأبرار”.
وما أطنب في ذكر شمائله لشهرتها وعدم وجود كثير شبهات عليه.
وأما معاوية بن أبي سفيان فاشتهر الطعن فيه عند المعتزلة والشيعة، وأخذ بذلك المأمون الخليفة العباسي سيئ الذكر.
قال الطبري في تاريخه (8/ 618): “وفيها أمر المأمون مناديا فنادى: برئت الذمة ممن ذكر معاوية بخير، أو فضله على أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
فاستدعى ذلك مزيد بيان من البخاري، وإليك ترجمة معاوية في تاريخ البخاري الكبير:
“معاوية بن أبي سفيان بن حرب واسم أبي سفيان صخر أبو عبد الرحمن القرشي الأموي قال علي بن عبد الله مات سنة ستين، قال إبراهيم بن موسى فيما حدثوني عنه عن هشام بن يوسف عن معمر قال سمعت همام بن منبه عن ابن عباس قال ما رأيت أحدا أخلق للملك من معاوية.
وقال أبو مسهر عن سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد عن عبد الرحمن بن عميرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال اللهم علم معاوية الحساب وقه العذاب وقال لي ابن أزهر يعني أبا الأزهر نا مروان بن محمد الدمشقي نا سعيد نا ربيعة بن يزيد سمعت عبد الرحمن بن أبي عميرة المزني يقول سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في معاوية بن أبي سفيان اللهم اجعله هاديا مهديا واهده واهد به وقال خطاب الفوزي الحمصي نا محمد بن عمر المحررى قال سمعت ثابت بن سعد عن معاوية قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول لا تزال طائفة من أمتي قائمة على أمر الله أو على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا ينقصهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله أو حتى تقوم الساعة.
حدثنى أحمد عن النفيلي أنه حدثهم عن عمرو بن واقد أنه حدثهم عن يونس بن حلبس عن أبي إدريس الخولاني عن عمير بن سعد قال لا تذكروا معاوية إلا بخير فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول اللهم اهده.
حدثنا إسحاق قال نا وكيع قال نا أبو المعتمر يزيد بن طهمان عن ابن سيرين قال كان معاوية يحدث عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال لا تركبوا الخز ولا النمار قال وكان معاوية لا يتهم في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
هذه تقريبًا أطول ترجمة لصحابي في كتاب البخاري، وقد قام الخلال في السنة بوضع فصل خاص بمعاوية، وكان غلام ثعلب عنده كتاب في فضائل معاوية لا يأتيه أحد يسمع منه إلا وقرأه عليه، وذلك أن عامة الرفض والشعوبية والزندقة كان مبدأه من الكلام في معاوية ثم تطور الأمر إلى بلاء مبين.