من دقيق فقه الإمام البخاري

في

,

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فإن أهل الحديث هم أسد الناس فهماً ، وأحسنهم قياساً ، وأنفعهم في الفتوى

وبسط الكلام في مناقب القوم ومآثرهم يطول ، وتتقازم قامتي عنه ، غير أن
المحب لا بد له من بعض الاشادة بمحبوبه

وقد كنت نظرت في صحيح الإمام البخاري وشيء من فتح الباري لابن حجر فرأيت
عجباً من دقة استنباطات الإمام البخاري فأردت أذكر بعض الأمثلة غير المشهورة عند طلبة
العلم لتكون مشوقةَ لهم إلى قراءة الصحيح وربما حفظه

المثال الأول : قال الإمام البخاري في كتاب الوضوء من صحيحه

بَاب التَّسْمِيَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَعِنْدَ الْوِقَاعِ

141 – حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ
عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
يَبْلُغُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ
إِذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ بِاسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ
الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا فَقُضِيَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ لَمْ يَضُرُّهُ

أقول : لم يصح عند البخاري حديث على شرطه في التسمية قبل الوضوء فجاء بحديث
التسمية قبل الوقاع وقاس الوضوء عليه فقال ( وعلى كل حال ) ، وهذا استدلالٌ عجيب

المثال الثاني : قال البخاري بَاب إِذَا لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلَا تُرَابًا

 336 : حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ
يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ قَالَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ
عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ قِلَادَةً
فَهَلَكَتْ فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا فَوَجَدَهَا
فَأَدْرَكَتْهُمْ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَصَلَّوْا فَشَكَوْا ذَلِكَ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ
التَّيَمُّمِ فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ لِعَائِشَةَ جَزَاكِ اللَّهُ خَيْرًا
فَوَاللَّهِ مَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ تَكْرَهِينَهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكِ لَكِ
وَلِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ خَيْرً

أقول : هذا المسألة تسمى عند الفقهاء بمسألة ( فاقد الطهورين ) ، وعلى
كثرة من بحث هذه المسألة قل من يتنبه إلى هذا الاستدلال الدقيق الذي ذكره البخاري ،
فإن الصحابة لما يجدوا ماءً ، ولم يؤذن لهم بالتيمم بعد ، صلوا على حالهم ، فأشبه حالهم
الإذن بالتيمم حال فاقد التراب وبهذا يرجح قول من قال أن فاقد الطهورين يصلي على حاله
لا قول من قاسه على الحائض أو قال ينتظر حتى يجد الماء

المثال الثالث : قال البخاري في كتاب الأحكام

بَاب كَيْفَ يُسْتَحْلَفُ قَالَ تَعَالَى {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ}
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا
إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا} {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ} وَ {يَحْلِفُونَ
بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ
مِنْ شَهَادَتِهِمَا} يُقَالُ بِاللَّهِ وَتَاللَّهِ وَ وَاللَّهِ وَقَالَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجُلٌ حَلَفَ بِاللَّهِ كَاذِبًا بَعْدَ الْعَصْرِ
وَلَا يُحْلَفُ بِغَيْرِ اللَّهِ

2678 – حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي
مَالِكٌ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ
بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ يَقُولُ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُهُ عَنْ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ فَقَالَ
هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا قَالَ لَا إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ قَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ
قَالَ لَا إِلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ قَالَ وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّكَاةَ قَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا قَالَ لَا إِلَّا أَنْ
تَطَّوَّعَ فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا
وَلَا أَنْقُصُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْلَحَ
إِنْ صَدَقَ

أقول : وقد يتعجب القاريء من هذا حيث أن البخاري قال :” باب كيف يستحلف
” ، ثم أورد حديث ( أفلح إن صدق ) ، وليس فيه حلف ولا استحلاف فلم أورده ؟

فالجواب : أن حديث ( أفلح إن صدق ) ورد في بعض طرقه لفظة( أفلح وأبيه إن
صدق ) ، والتي قد يستدل بها مستدل على جواز الحلف بغير الله ، فأشار البخاري إلى شذوذ
زيادة ( وأبيه ) بإيراد الحديث بدونها ، وهذا إشارة غاية في الدقة ، وقد انفصل ابن
عبد البر والألباني إلى الحكم بشذوذ هذه الزيادة مع ورودها في صحيح مسلم ، وأما البخاري
فاجتنبها بل أشار إلى شذوذها

المثال الرابع : قال البخاري في صحيحه

بَاب الْأَكْفَاءِ فِي الدِّينِ وَقَوْلُهُ { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ
الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا }

وقال في الحديث الثاني في هذا الباب

5089 – حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ
عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ضُبَاعَةَ بِنْتِ الزُّبَيْرِ فَقَالَ لَهَا لَعَلَّكِ أَرَدْتِ
الْحَجَّ قَالَتْ وَاللَّهِ لَا أَجِدُنِي إِلَّا وَجِعَةً فَقَالَ لَهَا حُجِّي وَاشْتَرِطِي
وَقُولِي اللَّهُمَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي وَكَانَتْ تَحْتَ الْمِقْدَادِ بْنِ
الْأَسْوَدِ

أقول : ووجه استدلاله هو أن المقداد بن الأسود مولى ، وضباعة قرشية فدل
هذا الحديث على عدم اشتراط الكفاءة في النسب

المثال الخامس : قال البخاري

بَاب مَنْ لَمْ يَرَ رَدَّ السَّلَامِ عَلَى الْإِمَامِ وَاكْتَفَى بِتَسْلِيمِ
الصَّلَاةِ

839 – حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنَا
مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ وَزَعَمَ
أَنَّهُ عَقَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَقَلَ مَجَّةً
مَجَّهَا مِنْ دَلْوٍ كَانَ فِي دَارِهِمْ

840 – قَالَ سَمِعْتُ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ الْأَنْصارِيَّ ثُمَّ أَحَدَ
بَنِي سَالِمٍ قَالَ كُنْتُ أُصَلِّي لِقَوْمِي بَنِي سَالِمٍ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ إِنِّي أَنْكَرْتُ بَصَرِي وَإِنَّ السُّيُولَ
تَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ مَسْجِدِ قَوْمِي فَلَوَدِدْتُ أَنَّكَ جِئْتَ فَصَلَّيْتَ
فِي بَيْتِي مَكَانًا حَتَّى أَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا فَقَالَ أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
فَغَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ
مَعَهُ بَعْدَ مَا اشْتَدَّ النَّهَارُ فَاسْتَأْذَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَذِنْتُ لَهُ فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى قَالَ أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ

مِنْ بَيْتِكَ فَأَشَارَ إِلَيْهِ مِنْ الْمَكَانِ الَّذِي أَحَبَّ أَنْ
يُصَلِّيَ فِيهِ فَقَامَ فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ ثُمَّ سَلَّمَ وَسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ

أقول : وجه تبويب البخاري هنا ، هو أن ابن عمر كان يرى أن المأموم يرد
السلام على الإمام ثم يسلم فاستدل البخاري على عدم وجوب هذا بقول عتبان :” فسلمنا
حين سلم ” ، ولم يذكر رد السلام فدل على عدم وجوبه

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم