من تعقبات شيخ الإسلام ابن تيمية على الأصوليين

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فهذه مجموعة من تعقبات شيخ الإسلام ابن تيمية على بعض المسائل المشهورة
عند جمهور الأصوليين جمعتها من خلال قراءات عدة أسأل الله عز وجل أن ينفع بها:

المسألة الأولى : قولهم (الأحكام التكليفية):

انتقد شيخ الإسلام تسمية الأوامر الشرعية تكاليف ، وإن كان هو رحمه الله
استخدم هذا المصطلح تنزلاً في بعض المواضع.

 قال شيخ الإسلام كما في مجموع
الفتاوى (1/25) : “وَلِهَذَا لَمْ يَجِئْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَكَلَامِ
السَّلَفِ إطْلَاقُ الْقَوْلِ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ أَنَّهُ تَكْلِيفٌ
كَمَا يُطْلِقُ ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَفَقِّهَةِ ؛ وَإِنَّمَا
جَاءَ ذِكْرُ التَّكْلِيفِ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ ؛ كَقَوْلِهِ : ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا () لَا تُكَلَّفُ إلَّا نَفْسَكَ () لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْسًا إلَّا مَا آتَاهَا﴾ أَيْ وَإِنْ وَقَعَ فِي الْأَمْرِ تَكْلِيفٌ ؛ فَلَا يُكَلَّفُ إلَّا
قَدْرَ الْوُسْعِ ، لَا أَنَّهُ يُسَمِّي جَمِيعَ الشَّرِيعَةِ تَكْلِيفًا ، مَعَ أَنَّ
غَالِبَهَا قُرَّةُ الْعُيُونِ وَسُرُورُ الْقُلُوبِ ؛ وَلَذَّاتُ الْأَرْوَاحِ وَكَمَالُ
النَّعِيمِ ، وَذَلِكَ لِإِرَادَةِ وَجْهِ اللَّهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ ، وَذِكْرِهِ
وَتَوَجُّهِ الْوَجْهِ إلَيْهِ ، فَهُوَ الْإِلَهُ الْحَقُّ الَّذِي تَطْمَئِنُّ إلَيْهِ
الْقُلُوبُ ، وَلَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ أَبَدًا”، هذا تقرير
نفيس غاية.

المسألة الثانية : قولهم (الصحيح والفاسد):

 قال الزركشي في البحر المحيط
(1/ 393):

“التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ تَيْمِيَّةَ
: لَمْ يَرِدْ فِي لَفْظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الصِّحَّةُ وَالْفَسَادُ ، بَلْ
الْحَقُّ وَالْبَاطِلُ ، وَإِنَّمَا الصِّحَّةُ اصْطِلَاحُ الْفُقَهَاءِ”.

المسألة الثالثة : قولهم أن أكثر العمومات غير محفوظة (يعني دخلها تخصيص):

بل ادعى بعضهم أنها العمومات التي لم يدخلها تخصيص أربعة فقط، وقد نقض
شيخ الإسلام هذا بل وقرر أن غالب العمومات في النصوص محفوظة.

قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (6/442) : “وَأَنْتَ إذَا قَرَأْت
الْقُرْآنَ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ وَجَدْت غَالِبَ عموماته مَحْفُوظَةً؛ لَا
مَخْصُوصَةً. سَوَاءٌ عَنَيْت عُمُومَ الْجَمْعِ لِأَفْرَادِهِ أَوْ عُمُومَ الْكُلِّ
لِأَجْزَائِهِ أَوْ عُمُومَ الْكُلِّ لِجُزَيْئَاتِهِ فَإِذَا اعْتَبَرْت قَوْلَهُ:
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ فَهَلْ تَجِدُ أَحَدًا
مِنْ الْعَالَمِينَ لَيْسَ اللَّهُ رَبَّهُ؟ ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ فَهَلْ فِي يَوْمِ الدِّينِ
شَيْءٌ لَا يَمْلِكُهُ اللَّهُ؟ ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ فَهَلْ فِي الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ أَحَدٌ لَا يُجْتَنَبُ حَالُهُ الَّتِي كَانَ بِهَا مَغْضُوبًا
عَلَيْهِ أَوْ ضَالًّا؟ ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ () الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ
الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ الْآيَةَ. فَهَلْ فِي
هَؤُلَاءِ الْمُتَّقِينَ أَحَدٌ لَمْ يَهْتَدِ بِهَذَا الْكِتَابِ؟ ﴿وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
بِمَا أُنْزِلَ إلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ﴾، هَلْ فِيمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ مَا لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ لَا عُمُومًا وَلَا خُصُوصًا؟ ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى
مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ هَلْ خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ
هَؤُلَاءِ الْمُتَّقِينَ عَنْ الْهُدَى فِي الدُّنْيَا وَعَنْ الْفَلَاحِ فِي الْآخِرَةِ؟”.

أقول : كأن الأصوليين الذين خالفوا شيخ الإسلام في هذه المسألة لم يقرأوا
القرآن ؟! ، وكم كنت مغتراً بكلامهم واثقاً به حتى قرأت كلام شيخ الإسلام هذا ، فلله
دره.

المسألة الرابعة: حصرهم مقاصد الشريعة في خمسة ( حفظ الدين والمال والنفس
والعقل والعرض ):

قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (32/ 234) :” وَقَوْمٌ مِنْ
الْخَائِضِينَ فِي ” أُصُولِ الْفِقْهِ ” وَتَعْلِيلُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ
بِالْأَوْصَافِ الْمُنَاسِبَةِ إذَا تَكَلَّمُوا فِي الْمُنَاسَبَةِ وَأَنَّ تَرْتِيبَ
الشَّارِعِ لِلْأَحْكَامِ عَلَى الْأَوْصَافِ الْمُنَاسِبَةِ يَتَضَمَّنُ تَحْصِيلَ
مَصَالِحِ الْعِبَادِ وَدَفْعَ مَضَارِّهِمْ وَرَأَوْا أَنَّ الْمَصْلَحَةَ “
نَوْعَانِ ” أُخْرَوِيَّةٌ وَدُنْيَوِيَّةٌ : جَعَلُوا الْأُخْرَوِيَّةَ مَا فِي
سِيَاسَةِ النَّفْسِ وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ مِنْ الْحِكَمِ ؛ وَجَعَلُوا الدُّنْيَوِيَّةَ
مَا تَضْمَنُ حِفْظَ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْفُرُوجِ وَالْعُقُولِ وَالدِّينِ
الظَّاهِرِ وَأَعْرَضُوا عَمَّا فِي الْعِبَادَاتِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ مِنْ
أَنْوَاعِ الْمَعَارِفِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ
وَأَحْوَالِ الْقُلُوبِ وَأَعْمَالِهَا : كَمَحَبَّةِ اللَّهِ وَخَشْيَتِهِ وَإِخْلَاصِ
الدِّينِ لَهُ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالرَّجَا لِرَحْمَتِهِ وَدُعَائِهِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَصَالِحِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . وَكَذَلِكَ فِيمَا
شَرَعَهُ الشَّارِعُ مِنْ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ . وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ ؛ وَحُقُوقِ
الْمَمَالِيكِ وَالْجِيرَانِ وَحُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَغَيْرِ
ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ حِفْظًا لِلْأَحْوَالِ السُّنِّيَّةِ
وَتَهْذِيبِ الْأَخْلَاقِ . وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذَا جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ مَا جَاءَتْ
بِهِ الشَّرِيعَةُ مِنْ الْمَصَالِحِ ” إلى آخر كلامه النفيس.

فهذه بعض تعقبات شيخ الإسلام على جمهور الأصوليين ، وهناك مسائل مشهور
مثل مسألة المجاز ، ومسائل لها متعلقات عقدية كالمباحث التي تفرعت على نفي التحسين
والتقبيح العقليين ، والمباحث التي تفرعت على إثبات الكلام النفسي ، وغيرها من الأمور
التي لم أرد ذكرها إما لأن بابها كتب العقيدة ، أو لأنها مشهورة عند عامة طلبة العلم.

 هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم