أدركت طلبة العلم في زمان وهم يتنافسون في معرفة السنن والمستحبات وتطبيقها حتى أنك لو قلت هذه سنة مهجورة وكان لا يعرفها ترى في عينيه فرحة كأنما أهديت له هدية ثمينة وما تلبث قليلا حتى تراه يعمل بها ويداوم عليها
كانت مرحلة طيبة وقد دخلها دخن في العجلة بالحكم بسنية بعض الأمور حتى صارت شهوة عند بعض الناس أن يجد سنة مهجورة ولو بالتكلف البارد ، وأيضا ما وقع من البعض من عدم مراعاة التدرج مع حديثي التنسك
ثم جاءت بعد ذلك مرحلة ( واجب أم مستحب ) ولوحظ كثرة الخوض في كون الشيء الفلاني واجبا أو مستحبا فإذا ثبت عند بعض الشباب أن الشيء الفلاني مستحب تركوه بالكلية ولو كان فيه أجرا كبيرا والمشقة فيه يسيرة وحتى لو كان الخلاف في وجوبه قويا
وظهرت في هذه المرحلة أهواء مخيفة مع استفادة من أخطاء بعض الناس في المرحلة الأولى من العجلة في الحكم بسنية بعض الأمور ثم التشديد في ذلك ولا يكون الأمر ثابتا أصلا ، وهذه الأخطاء مع كونها ليست بحجم الخير العظيم الذي انتشر بين المسلمين ولكن تم النفخ فيها لدواعي يعلمها الله وترك كثير من الشباب حتى الأمور الطيبة المتفق عليها والتي استفادوها في المرحلة الأولى
ومهد هذا للمرحلة الثالثة مرحلة ( مباح أو محرم ) وصار المرء اذا أراد أن ينبل في الناس أو يشتهر أبرز القول بإباحة بعض المحرمات خصوصا التي يتعلق بها قلوب العامة ومورست في هذه المرحلة الطريقة التي مارسها أصحاب المرحلة الثانية من النظر في بعض الأخطاء التي وقعت من بعض المشيخة أو المتنسكين وإيهام الناس أن هذه طريقة الجميع ممن يخالفهم ثم كتمان كل خير عظيم جرى على أيدي أولئك وتجدهم في أبحاثهم يتشنجون ويمارسون استدرار العواطف مراعين ميل الناس للنزعة الاباحية حتى أنك لتقطع أنه ليس بحثا فقهيا بقدر ما هو محاولة جادة لاسقاط الطرف المقابل وطريقته في التدين يتقاطع هذا الضرب مع الليبراليين في المنهجية والهدف ويزيدون عليهم بطرف من المعرفة الشرعية
حتى رأينا من كان يتحسر على سنة مستحبة أنه لم يعرفها ويعمل بها إلا متأخرا صار يتحسر على تركه للعديد من المنكرات التي أوهموه أنها مباحات أو مختلف فيها خلافا لا مكان فيه للورع بل اقتحم ولا تخف وكأنه لا أجر في البعد عن الشبهات
وصار الحائمون حول الحمى كثيرين ووقع كثيرون فيه ورتعوا ورأينا عرى التدين تنقض شيئا فشيئا وصاروا يتجاوزون من الأمور التي لهم أنها خلافية إلى محرمات صريحة لا خلاف فيها