قاعدة: القدر يُستدل به على المصائب ولا يستدل به على المعائب
بمعنى أنك إن وقعت لك مصيبة تقول : قدر الله وما شاء فعل وتصبر وتحتسب
لا أنك إن وقع منك ذنب تستدل بالقدر وتقول : قدر علي هذا الذنب . لتتخذ ذلك ذريعة للاستمرار على المعصية
فإن وقع منك ذنب وتبت منه وكان قد ترتب عليه مصيبة فقل في المصيبة : قدر الله وما شاء فعل ، وتب من الذنب وبهذا وجه احتجاج آدم بالقدر في قصة محاجته لموسى عليهما الصلاة والسلام
وهذه قاعدة جيدة لضبط الباب وكان قد أهمني أن أقف عليها في القرآن بدليل جامع لا من مجرد الاستقراء
ولعل ما في آيات النساء يدل على بغيتي أعني قوله تعالى : ( وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا )
ثم بعدها جاءت الآية : ( ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك )
فسبحان الله كيف جاء الأمر في الآية الأولى ( قل كلٌّ من عند الله ) ثم في الآية التي تليها ( وما أصابك من سيئة فمن نفسك )
والأعجب من ذلك أنه بعدها جاءت الآية : ( أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا )
وكأنها إشارة إلى أن ما تظنونه اختلافا يزول بالتدبر وينقلب الشك يقينا
وقد تعددت عبارات المفسرين في بيان مأخذ الآيتين وعامة كلامهم طيب غير أن المأخذ أن يتم إعمال قاعدة ( المصائب والمعائب )
فالآية الأولى كانت خطابا للمنافقين والمنافقون كل ما يهمهم أمر الدنيا فهم يتكلمون عن المصائب الدنيوية ويتطيرون بالنبي صلى الله عليه وسلم ويحملونه حمالة الهزيمة أو ما يصيبهم من أذى وبلاء وذلك لأنهم نسوا الأجر الأخروي بل هم غير مؤمنين به أصالة ثم إنهم إذا أصابهم خير من اتباع النبي صلى الله عليه وسلم أرجعوا الأمر للقدر المحض وكأن القدر يأتي بلا أسباب فقط لكي لا يكون للنبي صلى الله عليه وسلم فضل عليهم وهذا يشبه حال الفاسدين الذين إذا رأوْا خيرا في الناس سببه أهل الدين أو مجاورتهم والتأثر بهم قالوا : هو من الإنسانية ! لا فضل للدين فيه وإذا صار في الناس شر قالوا : هذا سببه الدين !
ثم الآية التي تليها تخاطب أهل الإيمان الذين يؤمنون بالقدر على وجهه الصحيح ويؤمنون بتأثير الذنوب ولا يرجعون الأمر إرجاعا كليا للأسباب الدنيوية كما هو حال المنافقين
فقيل لهم ثمة ذنب وقع منكم وبسببه حصل ما حصل فالأمر ليس سوء تدبير وإنما هو ذنب يستوجب التوبة فإن تبتم بقيت المصيبة فهذه الصبر عليها والتسلي هو المتعين ، وإن أطعتم الله فحسنة الدنيا والآخرة
فالآية الأولى متعلقها المصائب التي لا يلام عليها المرء شرعا في نفسها وإنما ينظر ماذا سيفعل تجاهها وبذلك يتعلق المدح والذم والآية الثانية متعلقها الذنوب والطاعات وهذه مخاطب بها العبد ويتعلق به المدح والذم ثم الربط بين هذه الذنوب وما يترتب عليها فالمصيبة المترتبة على معصية هي من نفس العبد لأنه عصى بإرادته وهي من عند الله ( لأنه هو من عاقب عليها ) والمنافقون ما أرادوا هذا المعنى حين ألقوا اللوم على النبي فهم أعصى الخلق بل أرادوا لومه على التدبير مع تبرئة أنفسهم من كل تبعة ، والطاعة من عند الله على كل حال لأنه الآمر بها المرغب والمثيلة والمتفضل على العبد بأن فرضها عليه ميسرة مقدورة بلا عظيم كلفة
ولا يخفى ما في الآية من إثبات أفعال للخالق في واقع العباد وإثبات أفعال للعباد وفِي ذلك الرد على القدرية والجبرية ولتفصيل مذهب أهل السنة مقام آخر والمراد هنا إيضاح القاعدة والآيات وتناقض أهل النفاق في نسبة الأسباب ومذاهبهم في حصر الأسباب في الدنيوية ( إن شاءوا ) كما هو حال المبطلين الْيَوْم إن كلمتهم بطاعة الله وأنها من أسباب النصر أحدثوا فصاما نكدا بين بذل الأسباب وطاعة ( مع أن هذا البذل من طاعة الله وليس هو كل طاعة الله ) وأرجعوا الامر لحذق البشر مطلقا وجعلوه علة تامة وَيَا ليت شعري لماذا حذق بعض البشر وبعضهم لم يحذق أليس هذا كله بتوفيق الله وعدله يستدرج هذا ويفتن هذا ويمكن هذا ويعز هذا ويذل هذا ويسلط هذا على ذاك وذاك على هذا وله في كل ذلك حكمة ولا سبيل إلى تحصيل حسنة الدنيا والآخرة الا باتباع الوحي فإذا تركنا الوحي صرنا كغيرنا وصار الأمر حقا عائدا إلى الحذق بل ربما صارت هزيمتنا متعينة لأننا لو غلبنا ونحن نحرف الدين لكان في غلبنا فتنة للضعفاء وبابا للتصديق أن تحريف الدين هو السبيل للظفر بالعدو وتلك فتنة أعظم بكثير من مجرد فتنة تسلط العدو
والمنافقون الأوائل خير ممن تأخر فهم على الأقل يرجعون الحسنة لله وأما هؤلاء الْيَوْم فكل حسنة عندهم راجعة إلى أوليائهم ومقدسيهم من الغربيين.