مشروعية طرد المشغبين من حلق العلم

في

,

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فقد بلغني أن بعض النالس قام بطرد بعض من يراه مشغباً من الطلبة
( وقد تكلم بكلام أهل التمييع ) ، فاعترض عليه بعض من امتهن تتبع هذا الشخص لخصمومة قديمة ، شفاءً لغيض نفسه ولا غناء له بذلك

 وقال أن طرد الطلبة ما ينبغي وأن
ذلك من مسالك الغلاة.

ولست أتكلم هنا عن الحادثة بعينها ، فإن لكل مقام مقالاً

 غير أن المراد هنا بيان أن طرد
بعض المشغبين من أهل البدع والتمييع مسلك سار عليه جماعة من أهل العلم والأصل الرفق بالمتعلم طالب الفائدة ، والأخذ بيده
والسعي في إيصال وجوه الخير إليهم بكل وسيلة مشروعة، وقد قال الله عز وجل ( وأما السائل
فلا تنهر ).

وقال أبو داود في سننه 2620 : حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري ثنا أبي
قال ثنا شعبة عن أبي بشر عن عباد بن شرحبيل قال: أصابتني سنة (السنة المجاعة تصيب الناس)
فدخلت حائطا من حيطان المدينة ففركت سنبلا فأكلت وحملت في ثوبي فجاء صاحبه فضربني وأخذ
ثوبي فأتيت رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال له “ما علمت إذ كان جاهلا ولا
أطعمت إذ كان جائعا” أو قال “ساغبا (الساغب الجائع)” وأمره فرد علي
ثوبي وأعطاني وسقا أو نصف وسق من طعام.

فإذا كان هذا فيمن يسأل متاع الدنيا ، فما بالك فيمن يسأل ميراث الأنبياء
لا شك أن هذا أولى بالرفق وعدم النهر من طالب الدنيا، هذا هو الأصل

ولكن من ظهر فيه العناد للحق ، والتشويش والمشاقة لأهل الحق فهذا يعاقب
بحسب حاله، كما صنع عمر بن الخطاب مع صبيغ لما علم من حاله أنه يسأل تعنتاً ، فأمر
الناس بهجره

 قال أحمد في فضائل الصحابة
690 : قثنا مكي بن إبراهيم قثنا الجعيد بن عبد الرحمن ، عن يزيد بن خصيفة ، عن السائب
بن يزيد أنه قال :

 أتى إلى عمر بن الخطاب ، فقالوا
: يا أمير المؤمنين ، إنا لقينا رجلا يسأل عن تأويل القرآن ، فقال : اللهم أمكني منه

 قال : فبينا عمر ذات يوم جالس
يغدي الناس إذ جاءه وعليه ثياب وعمامة ، فغداه

 ثم إذا فرغ قال : يا أمير المؤمنين
، ( والذاريات ذروا فالحاملات وقرا ) ، قال عمر : أنت هو ؟

فمال إليه وحسر عن ذراعيه ، فلم يزل يجلده حتى سقطت عمامته ، ثم قال :
واحملوه حتى تقدموه بلاده ، ثم ليقم خطيبا ثم ليقل : إن صبيغا ابتغى العلم فأخطأ ،
فلم يزل وضيعا في قومه حتى هلك ، وكان سيد قومه.

وهذا إسنادٌ صحيح.

وقال مسلم في صحيحه 5094- [56-…] وحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي
شَيْبَةَ ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ ابْنُ عُلَيَّةَ ، عَنْ أَيُّوبَ ، عَنْ سَعِيدِ
بْنِ جُبَيْرٍ ، أَنَّ قَرِيبًا لِعَبْدِ اللهِ بْنِ مُغَفَّلٍ خَذَفَ ، قَالَ : فَنَهَاهُ
، وَقَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنِ الْخَذْفِ
، وَقَالَ : إِنَّهَا لاَ تَصِيدُ صَيْدًا ، وَلاَ تَنْكَأُ عَدُوًّا ، وَلَكِنَّهَا
تَكْسِرُ السِّنَّ ، وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ ، قَالَ : فَعَادَ ، فَقَالَ : أُحَدِّثُكَ
أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهُ ، ثُمَّ تَخْذِفُ
، لاَ أُكَلِّمُكَ أَبَدًا.

فهجر عبد الله بن مغفل قريبه ( وكان تلميذاً عنده ) ، لما رأى من جرأته
على مخالفة الأوامر النبوية ، ولا شك أن هذا القريب لم يصل إلى مرحلة المبتدع ، وهذا
كان تأديباً

 قال ابن أبي حاتم تقدمة الجرح
والتعديل ص21 سَمِعتُ أَبي يقول: سَمِعتُ عَبد العزيز الأويسي يقول: لما خرج إِسماعيل
بن أَبي أُوَيس إلى حسين بن عَبد الله بن ضميرة وبلغ مالكا هجره أَربعين يوما.

 قال أَبو محمد: هجره لأنه لم يرضاه

 وهذا إسناد قوي ، ويلاحظ أن مالكاً
هجر تلميذه وابن أخته إسماعيل بن أبي أويس لمجرد خرج لمقابلة راو يتهمه مالك فتأمل
هذا.

وقال ابن أبي حاتم في تقدمة الجرح والتعديل ص138 ذكره أَبي، حَدثنا إِسماعيل
بن حفص الأَيلي قال: قال غُنْدَر قال لي شُعبة: لا تقرب الحسن بن عمارة فإِني إِن رأَيتك
تقربه لم أحدثك.

أقول : فتأمل كيف هدده بترك تحديثه ، إذا رآه (يقرب ) فقط ( يقرب ) الحسن
بن عمارة ، فهل شعبة لا يريد الخير لمحمد بن جعفر ؟! إنما هدده بهذه العقوبة لينتهي
عما يصنع.

وقال البخاري في جزء رفع اليدين 15 – حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا عبد الأعلى
بن مسهر ، حدثنا عبد الله بن العلاء بن زبر ، حدثنا عمرو بن المهاجر قال : « كان عبد
الله بن عامر يسألني أن أستأذن له على عمر بن عبد العزيز فاستأذنت له عليه فقال : الذي
جلد أخاه في أن يرفع يديه ؟ إن كنا لنؤدب عليه ، ونحن غلمان بالمدينة . فلم يأذن له
قال البخاري : وكان زائدة لا يحدث إلا أهل السنة اقتداء بالسلف.

أقول : فزائدة لم يكن يحدث إلا أهل السنة فمعنى هذا أنه كان يطرد أهل البدع
من حلقه، وتأمل قول البخاري هذا بعد الأثر الذي ذكره ، والأثر الذي ذكره في الرد على
أهل الرأي الذين لا يرفعون أيديهم في الصلاة وينكرون على من يرفع فتأمل هذا واحفظه
جيداً.

قال ابن رجب في فتح الباري (5/166) :” وسئل الإمام أحمد ، فقيل لهُ
: إن عندنا قوما يأمروننا برفع اليدين في الصلاة ، وقوما ينهوننا عنه ؟ فقالَ : لا
ينهاك إلا مبتدع ، فعل ذَلِكَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، وكان ابن عمر يحصب
من لا يرفع، فلم يبدع إلا من نهى عن الرفع وجعله مكروها، فأما المتأول في تركه من غير
نهي عنه فلم يبدعه”.

وعوداً على موضوعنا الأصل

قال الخطيب في الجامع لآداب الراوي وأخلاق السامع 764 : أنا أحمد بن محمد
بن غالب ، قال : قرئ على أبي علي بن الصواف وأنا أسمع ، حدثكم جعفر الفريابي ، نا رياح
بن الفرج الدمشقي ، قال : سمعت أبا مسهر ، يقول :

 قدم علينا إبراهيم بن محمد الفزاري
قال : فاجتمع الناس يستمعون منه

قال : فقال لي :  اخرج إلى الناس
فقل لهم : من كان يرى رأي القدر فلا يحضر مجلسنا ، ومن كان يرى رأي أبي حنيفة فلا يحضر
مجلسنا ، ومن كان يأتي السلطان فلا يحضر مجلسنا  ، قال :  فخرجت فأخبرت الناس

 فتأمل طرده للمخالفين من مجلسه،
وقد بوب الخطيب في الجامع على هذا الأثر وغيره من الآثار ( من كان لا يحدث أصحاب الرأي
)، ويبدو أن هؤلاء من السلف كانوا غلاة !

وقال الخليلي في الإرشاد ص149:” إبراهيم بن يوسف البلخي رئيسها وشيخها
، وقعت له قصة : دخل على مالك بن أنس ، فقام قتيبة بن سعيد البلخي ، فقال : هذا رجل
يرى رأي العراقيين في الأرجاء ، فأمر مالك أن يخرج ، ويؤخذ بيده”.

أقول : رأي العراقيين في الإرجاء يعني إرجاء الفقهاء ، الذين من يبدعهم
اليوم يصير حدادياً مبتدعاً عند بعض السفهاء

 وقال ابن مفلح في الآداب الشرعية
(1/250) :” قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ لِأَيُّوبَ : لَا تُجَالِسْ طَلْقَ بْنَ
حَبِيبٍ فَإِنَّهُ مُرْجِئٌ ، وَقَالَ إبْرَاهِيمُ لِرَجُلٍ تَكَلَّمَ عِنْدَهُ فِي
الْإِرْجَاءِ : إذَا قُمْت مِنْ عِنْدِنَا فَلَا تَعُدْ إلَيْنَا.

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ : “لَا تُجَالِسُوا أَصْحَابَ
الْقَدَرِ وَلَا تُمَارُوهُمْ ، وَكَانَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ إذَا جَلَسَ يَقُولُ
: مَنْ كَانَ قَدَرِيًّا فَلْيَقُمْ ، وَعَنْ طَاوُسٍ وَأَيُّوبَ ، وَسُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ
أَبِي السُّوَارِ وَيُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ وَغَيْرِهِمْ مَعْنَى ذَلِكَ ، قَالَ الْقَاضِي
هُوَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ”.

فتبين من مسالك العلماء قديماً وحديثاً ، أنهم ربما أدبوا بعض أهل التشغيب
بالطرد خصوصاً من يشوش على الطلبة ، من باب ترجيح المصلحة العامة

 ومنهم من كان لا يحدث أهل البدع

 ومنهم من كان يرى إقامة الحجة
على أهل البدع بتحديثهم كما كان ابن عباس يفتي نجدة الحروري ويبين له الحلال والحرام

 والأمر متعلقٌ بالمصلحة والمفسدة
فليس فيه قاعدة مطردة، فلا يجوز الإنكار على من بذل وقته وجهده لإخوانه ، وسعى في بذل
الخير لهم إذا قام بطرد مشغب ، إذا علم منه التشغيب ، حتى نعلم أن هذا الطرد كان غيره
أصلح منه.

والذي أود قوله أخيراً أن البعض إنما شغله وهمته في تتبع من يتكلمون فيه
، يرجو لهم العنت والزلل

 فإذا رأى ما يظنه زلةً أعمل لسانه
فيهم شفاء لما فيه صدره عليهم ، حتى إنني لأحسب أن بعضهم لو تشاجر مع جاره لجاء هذا
الموتور وكتب رداً عليه يذكر فيه حقوق الجار !

والواجب على من تصدى للكتابة ، أن يتجرد من حظوظ النفس ويكتب لله ، ويسعى
في إعلاء أمر الله عز وجل كما قيل في المجاهد في سبيل (من قاتل لتكون كلمة الله هي
العليا فهو شهيد)

فإن قال المقصود : ما كتبت هذا إلا إعلاءً لأمر الله عز وجل، فيقال : حالك
لا يدل على هذا

 فكم من مبطل سكت عليه وجعلت همك
تتبع من نصح لك وتكلم فيك بحق.

قال شيخ الإسلام في منهاج السنة (5/256) : “وصاحب الهوى يعميه الهوى
ويصمه فلا يستحضر ما لله ورسوله في ذلك ولا يطلبه ولا يرضى لرضا الله ورسوله ولا يغضب
لغضب الله ورسوله

 بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه
ويغضب إذا حصل ما يغضب له بهواه ويكون مع ذلك معه شبهة دين أن الذي يرضى له ويغضب له
أنه السنة وهو الحق وهو الدين

 فإذا قدر أن الذي معه هوالحق المحض
دين الإسلام ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله وأن تكون كلمة الله هي العليا بل قصد
الحمية لنفسه وطائفته أو الرياء ليعظم هو ويثنى عليه

 أو فعل ذلك شجاعة وطبعا أو لغرض
من الدنيا لم يكن لله ولم يكن مجاهدا في سبيل الله فكيف إذا كان الذي يدعي الحق والسنة
هو كنظيره معه حق وباطل وسنة وبدعة ومع خصمه حق وباطل وسنة وبدعة”.

وقال الخلال في السنة 636:  سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ صَدَقَةَ , يَقُولُ : سَمِعْتُ غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا , وَأَبَا الْقَاسِمِ بْنَ الْجَبَلِيِّ غَيْرَ مَرَّةٍ :
أَنَّهُمْ حَضَرُوا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ – يعني الإمام أحمد –  سُئِلَ عَنْ حَدِيثِ سَفِينَةَ , فَصَحَّحَهُ .
 فَقَالَ رَجُلٌ : سَعِيدُ بْنُ جُمْهَانَ , كَأَنَّهُ يُضَعِّفُهُ .
 فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : يَا صَالِحُ , خُذْ بِيَدِهِ , أُرَاهُ قَالَ : أَخْرِجْهُ , هَذَا يُرِيدُ الطَّعْنَ فِي حَدِيثِ سَفِينَةَ.

وهذا إسناد صحيح أبو بكر ابن صدقة وأبو القاسم الجبلي حافظان مترجمان في سير أعلام النبلاء 

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم