كنت قد عزمت ألا أكتب شيئاً في مسألة التسلسل ولكنني صدمت فعلاً بأن عدداً من الأخوة فعلاً غير فاهمين نهائياً والعجيب أنهم يستدلون بأخبار خارج محل النزاع
من ذلك استدلال أحدهم بهذا الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني أنبئني عن كل شيء قال كل شيء خلق من الماء. رواه أحمد
وبغض النظر عن كون الحديث من رواية قتادة عن أبي ميمونة وقتادة كثير الإرسال الخفي ولم يصرح بالسماع من أبي ميمونة في أي حديث وأحاديثه عنه قليلة لذا أورد البزار هذا الحديث في مسنده المعلل وضعفه بعض المعاصرين إلا أن الحديث خارج محل النزاع
فقول أبي هريرة ( كل شيء ) هل أراد به كل شيء مطلقاً بحيث يكون الماء أول المخلوقات مطلقاً أم أراد كلية مقيدة بكل شيء نراه أو كل شيء سمعنا عنه
الجواب هي كلية مقيدة بدليل تقييد ظاهر القرآن فالله يقول ( وجعلنا من الماء كل شيء حي ) والقرآن يخصص اتفاقاً والمراد هنا كل شيء حي مما نراه من الحيوان والنبات ويخرج من ذلك بتخصيص القرآن والسنة الملائكة الذين خلقوا من نور والعرش الذي لا يوصف بالحياة والشياطين الذين خلقوا من نار فالكلية هنا كقوله ( تدمر كل شيء بأمر ربها ) ثم ذكر مستثنى فقال ( فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم )
يرجى مراجعة ما كتبته سابقاً في المسألة وواضح أن كثيراً من الأخوة ما تكلف هذا النوع من الاستدلالات الضعيفة إلا أنه انطلت عليه شبهات المعطلة في اعتقاد امتناع هذا الشيء فصار يتكلف له الاستدلالات الباردة والمعطلة بنوا قولهم على نفي الأفعال الاختيارية
قال البخاري في خلق أفعال العباد :” وَلَقَدْ بَيَّنَ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ أَنَّ كَلَامَ الرَّبِّ لَيْسَ بِخَلْقٍ، وَأَنَّ الْعَرَبَ لَا تَعْرِفُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ إِلَّا بِالْفِعْلِ، فَمَنْ كَانَ لَهُ فِعْلٌ فَهُوَ حَيٌّ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِعْلٌ فَهُوَ مَيِّتٌ” وهذا كالنص على أن جنس الأفعال أزلي
والمصيبة أن كثيرين يخلطون بين الحكم على ( الجنس ) والحكم على الأفراد فلو قلنا جنس أفعال الله عز وجل أو مفعولاته أزلي أو قديم فهذا لا يعني أن الأفراد ليست متعلقة بالمشيئة أو متجددة أو كما يقال حادثة
خذ مثالا لو قلت جنس الأكل والشرب في الجنة لا نهاية له فإن هذا الحكم لا ينطبق على الأفراد بل كل أكلة لها بداية ونهاية
وقوله ( لابثين فيها أحقاباً ) كل حقب له بداية ونهاية باتفاق السلف ولكن هذا لا يعني أن جنس الأحقاب له نهاية الأمر نفسه يقال في أمر البداية ودليل امتناع التسلسل في المؤثرات الذي نحتج به على الزنادقة لا ينخرم هنا نهائياً إذ لا أحد يقول بقدم شيء مع الله بعينه
قال ابن تيمية في جامع الرسائل :” وهذا نظير حديث أبي رزين العقيلي المشهور في كتب المسانيد والسنن أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ فقال ” كان في عماء، ما فوقه هواء وما تحته هواء ” فالخلق المذكور في هذا الحديث لم يدخل فيه الغمام، وذكر بعضهم أن هذا هو السحاب المذكور في قوله (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام) وفي ذلك آثار معروفة” وهذا من أقوى الأدلة النقلية التي استدل بها الشيخ إذ تدل صراحة على وجود مخلوق وهو العماء ( وهو السحاب الكثيف في قول الأصمعي وأبي عبيد والأزهري ) قبل العرش الذي هو أول مخلوقات عالمنا وقوله ( في ) بمعنى ( على ) وانظر شرح حديث النزول ص164 ولا تغتر بثرثرة من يقول أنه قرأ كل شيء في المسألة فإما أن يكون صادقاً ولكنه لا يفهم وإما أن يكون ظن ظناً غالطاً