فإن مواقع التواصل الاجتماعي على ما لها من السيئات تطلعك على ما يسوءك ابتداءً ولكن عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم ، فقد ييسر لك نقد بعض الأمور التي تراها ، ولظروف اكتنفتني تركت كتابة المقالات التأصيلية المطولة منذ زمن ، غير أنني اليوم قد من الله عز وجل علي بشيء من الهمة لكتابة بعض الكلمات التي أرجو من الله عز وجل أن ينفع بها ، إذ أنني لا أجني شيئاً من كتابتها وأزعم أنني أريد الخير للناس.
وليستحضر الكاتب والقاريء أننا من تراب وإلى التراب نعود ، وأننا محاسبون على كل كلمة نقولها ، وأهم من الذي نقوله الذي نكتبه فإن الكلمة تقال ويسمعها عدد محدود ثم تنسى في الغالب بخلاف المكتوب وخصوصاً في هذه الأيام فإنها تبقى طويلاً وأرجو من الله ألا يكلني إلى نفسي طرفة عين فأوذيها بكتابة ما يغضبه وأن يلهمني الرشد والصواب.
وداعي الكتابة اليوم هو التنبيه على حبالة من حبالات إبليس وهي أن يكون المرء على استقامة في العقيدة في الجملة ، ولكن عنده أخطاء في عدد من المسائل ربما المتعلق منها بالحكم على المخالف وربما المتعلق منها بالتعامل معه وربما بعض مسائل الصفات وربما غيرها وربما هي مجتمعة مع خلل في الفقه والحديث وغيرها من الأبواب.
ولو استمر في قراءة كتب السلف وطلب العلم لعلم ما عنده من الخلل وقام بإصلاحه ، ولكنه يشتغل بالدفاع عن عقيدته في الأبواب التي هو مصيب فيها وربما المناظرة عليها والإفراط في ذلك حتى يأتيه الأجل ولم يصلح ما عنده من خلل ويفتنه ما يراه من صواب نفسه وربما اهتدى على يديه بعض الناس فصار ذلك أدعى لفتنته.
فهذا الكرامي إسحاق بن محمش أسلم على يديه من أهل الكتاب والمجوس خمسة آلاف نفساً ومع ذلك كان يضع الحديث لأن الكرامية يجوزون الكذب من أجل الترغيب والترهيب وكان يعتقد أن الله جسم ويقول الإيمان باللسان، فأسلم على يديه هذا العدد وهو ضائع في العقيدة فتأمل هذا المثال.
ويقابله ابن الجوزي الذي كان مع حنبليته على عقيدة الجهمية في باب الصفات وأسلم على يديه آلاف اليهود والنصارى فهذان رجلان يحملان عقيدتان متقابلتان وكل منهما يكفر الآخر ، ومع ذلك كان لكل منهما جهد دعوي عظيم في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام في الجملة.
وليعلم أن إسلام الجهمية ليس إسلاماً وكذا إسلام الكرامية ، غير أن المرء إذا دخل في الدين على عقيدة فاسدة فإن ذلك خيرٌ من بقائه على عقيدته الفاسدة الكفرية الأولى لأن ذلك يسهل دخوله في الإسلام الصحيح.
وكم واحد حاله يشبه حال هذين اللذين اشتغلا بإصلاح الناس وألهاهما ذلك عن إدراك الخلل في نفسيهما وهذا يشبه من وجه حال بعض القاديانية الذين صاروا متمرسين بمناظرة النصارى بل لا يدعون المسلمين إلا عن طريق مناظرة النصارى
وقد اعتبر حسن البنا في مقال له في مجلة المنار أن هذا من أخبث وسائلهم لنشر دعوتهم وهذا ابن الراوندي لما صنف كتاباً أسماه ( الدامغ ) يعارض فيه القرآن ، استسخفه أهل الحديث ولم يعبأوا به ولكن أبا هاشم الجبائي المعتزلي انبرى له وكتب عليه رداً وكذلك تجد كثيراً من ردود المنتسبين للإسلام على النصارى يكتبها أشاعرة وهذا له تفسيران أحدهما : أنه القوم لما كانوا في شك عظيم من اعتقادهم شغلوا أنفسهم بالرد على من هم أبعد عنهم عن الحق تسكيناً لنفوسهم وتثبيتاً لها.
ثانيهما : أنهم لما رأوا أن الدعوة المباشرة لأهل السنة لا تجدي لجأوا إلى مثل هذا الطريق لدعوتهم فإن نفوس المسلمين تتوق للرد على المشركين.
ولهذا تنبه ابن تيمية لهذا الأمر فسابقهم للرد على الرافضة وبين غلطهم في ردهم على الرافضة في باب القدر ، وكتب على النصارى رداً وكتب في النبوات كتابة بين فيها غلطهم في طريقة إثبات النبوة ، وناقض
المناطقة وسفههم هم والمتكلمون جميعاً.
وكثير من التبليغيين يثبته على منهجه أنه دعا كثيرين للإسلام واستجابوا ولا يتنبه لما في منهجه من الإحداث ، وأنه لو سار على المنهج السليم لكان إنجازه أعظم ولكان عمله سالماً من كل شائبة والسلامة لا
يعدلها ومن أصلح الناس بإفساد نفسه كان كالشمعة التي تحرق نفسها لتضيء للآخرين.
ومن يسلم على يديك على منهج منحرف تؤجر فيه وتؤزر أيضاً ، فتؤجر على تعليمه للإسلام إن كنت موحداً وتؤزر على تعليمه البدع فتأمل هذا جيداً.
وكذلك الشاب الذي يهتدي على يد داعية إلى التمسك ببعض الأوامر الشرعية فإن الداعية الذي لقنه قصصاً مكذوبة يؤجر فيه ويؤزر ، وربما كان الوزر أعظم
والهداية لها أسباب _ وليست محصورة بك _ فربما أنت زاحمت سنياً في دعوة هذا الشخص للإسلام أو الاستقامة ، فتكون كطبيب أنقذ جسداً وأعطب عضواً ، ولم يخلِ بين المريض وبين الطبيب الحاذق الذي لو ترك له لأنقذ جسده ولم يعطب أي عضو.
وقد كان يقال لنا قديماً ( فلان له فضل عليكم ) لأنه أعطانا بعض الدروس ثم لما تأملت وجدت أنه كان يدرسنا ويخلط حقاً وصواباً ويحول بيننا وبين من هو خير منه وربما نفر من السلف ، الذين لا سلامة من
الهوى إلا باتباعهم أما الأحياء فربما خضع لضغط نفسي من هنا أو هناك فدخل عليه هوى خفي فأبعده عن الحق.
قال ابن المبارك في الزهد 66 – أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: رَجُلٌ قَلِيلُ الْعَمَلِ قَلِيلُ الذُّنُوبِ أَعْجَبُ إِلَيْكَ، أَوْ رَجُلٌ كَثِيرُ الْعَمَلِ كَثِيرُ الذُّنُوبِ؟ قَالَ: «لَا أَعْدِلُ بِالسَّلَامَةِ». قَالَ ابْنُ صَاعِدٍ: «يَعْنِي شَيْئًا».
وهذه الحال التي أتكلم عنها قد أسرت الكثير من الشباب المتحمس لدينه فتجد هذا مشتغلاً بالرد على الملاحدة ومناظرتهم وإدراك تفاصيل شبههم والرد عليها ، وذاك مشتغل بالرد على الرافضة والآخر بالرد على النصارى وذاك بالإباضية وغيرهم شغله الرد على الإخوان والتبليغ.
وافتتحت لذلك منتديات حوارية ( أعني الرد على الملاحدة والنصارى والرافضة والإباضية ومنكري السنة ) وتجد الشاب ينفق وقتاً عظيماً في الرد عليهم ويصير متخصصاً في ذلك وربما أسلم على يديه عدد ، ولكنه بعد هذا كله لا يعرف بعض كبريات مسائل العقيدة ، بل ربما لا يعرف بعض السنن في الصلاة بل أبعد من ذلك يجعل إجماعات سلفية في مسائل فقهية في باب الطهارة.
ولا أبالغ ولكن أطالبك بأن تأخذ جولة في مدونتي ( جولة جادة )إلا فاسأل أي شاب ممن أشغل نفسه بالأمور السابقة الأسئلة التالية:
هل النور من أسماء الله الحسنى وما الدليل على ذلك ؟
وأعطني خمس معانِ لاسم ( الصمد ) الوارد في سورة الإخلاص ؟
وما معنى قولنا في الصلاة ( التحيات لله )؟
وما هي أقوال السلف في اسم الله الأعظم وما وجه كل واحد منها ؟
وماذا قال السلف في تفسير ( طه ) و ( ن) و( ق ) ؟
اطلب منه الإجابة على هذه الأسئلة دون الاستعانة بجوجل
معظمها متعلق بركن الإيمان الأول ( الإيمان بالله ) ، ولو سألت المتخصص بالرد على النصارى عن دين النصارى في بعض المسائل الكبار التي يعرفها لأجاب على البديهة ، وكذا مناظر الرافضة وكذا مناظر الملاحدة بل كثير منهم يعرف أسماء الملاحدة وأسماء كتبهم ، أو يعرف أسفار الكتاب المقدس أو يعرف كتب الرافضة وعلماء الرافضة ولم يقرأ في حياته الشريعة للآجري والسنة لعبد الله والسنة للخلال والإبانة لابن بطة وذم الكلام للهروي ولو ذكرت له بعض مشاهير التابعين ( في زمن السلف ) كأبي إدريس الخولاني وابن مح يريز أبي قلابة وعطاء بن أبي رباح لما عرفهم بل كثير منهم لم يقرأ الصحيحين مجرد قراءةوهذه ليست حال الكل ولكنها حال كثيرين.
وباختصار هو يعرف الدين أو المذهب الذي ينقده أكثر من معرفته بالدين الذي يعتنقه
وربما أسلم على يديه من يصير أعلم منه لاحقاً بكثير وكونك تدعو للدين لا يعني أن تنسى نفسك
وتصير كمن يوصل الناس إلى باب القصر ولا يدخله أو يقف في أوله.
ولست أدعو لعدم الرد على الملحدين أو النصارى أو اليهود أو الرافضة وإنما أدعو من أغرق في هذا الأمر حتى أنساه تعلم أمر دينه كما ينبغي ، أن يتوقف قليلاً ويتنبه لإصلاح نفسه ويقرأ التفاسير السلفية وكتب السلف في جميع أبواب العلم ويعرض نفسه عليها ويصلحها لئلا يصير ممن يجمع بين الأجر والإثم في دعوته أو جهاده وليعلم أنه كلما تعلم أكثر كلما كانت حجته أفلج وتأثيره أعظم ، هذا مع الإخلاص ( وأمر المناظرات لبحثه محل آخر وليراجع كلام الآجري في الشريعة وما ذكره الخلال في السنة وما قاله ابن تيمية في الجواب الصحيح ).
وسبب كلامي هذا أنني رأيت عقولاً نيرة ونفوساً حريصة على الدين ولكنها تجهل كثيراً منه بفعل الاشتغال الشديد بالمناظرات أو كتابة الردود على هؤلاء القوم وكثير ممن يدخل في هذا الباب ويبالغ فيه
يكون لذلك أثر عكسي على الولاء والبراء عنده فمن اعتاد سماع كلام الملحدين الغث ربما لانت نفسه ليناً ليس شرعياً تجاه النصارى واليهود خصوصاً إذا كان منهم من يشتغل بالرد على الملحدين.
وعدد من المشتغلين بالرد على الرافضة تراه يميع الخلاف مع الأشاعرة ومن هم دون الأشاعرة وهكذا.
وظاهرة اختزال الدين أوسع من هذا ، فمن الناس من يكون همه الجهاد ، ومنهم من يكون همه مسألة العذر بالجهل ومنهم من يكون همه مسألة السمع والطاعة وسواءً كان مصيباً أو مخطئاً في هذه
المسائل تجده يعقد الولاء والبراء عليها دون غيرها من المسائل فلو جاء شخص وخالف الإجماع في عشر مسائل فقهية وأخطأ ببعض مسائل العقيدة ، ولكنه وافقه في المسألة الكبرى عنده لوجدته يثني
عليه ويعتذر له وإن كان مخالفاً له فيما أخطأ فيه ولو جاء شخص يوافق كلام السلف في المسائل
السابقة كلها وينتصر لها ولكنه يخالفه في مسألته الأصلية فله الشتم والتحقير وإلا ما الذي يجعل سيد قطب عند محبيه معظماً جداً ، ومنتقدوه محتقرون في غالبهم مع أنهم هم والمنتقدون متفقون بالجملة في مسائل الصفات ومسائل الصحابة والتفضيل والخلافة وآيات الأنبياء وغيرها مما انتقد على سيد واتفق الجميع على أنه وقع فيها؟
وهذه ليست مسائل خفية وتحتمل الأخذ والرد ولا أريد أن أجنح كثيراً إلى التمثيل فالأمثلة كثيرة ، فإن كثيراً من الناس يترك المقال ويركز في التمثيل ولا أريد هذا غير أن بعض الأمثلة توضح المقام ولو قرأ الرجل في كتب السلف لعرف الطريق الصحيح للولاء والبراء وما يوالى وما يعادى عليه حقاً ولتعلم الإنصاف فليس كل موافق ( علامة ) أو ( فضيلة شيخ ) ولا كل مخالف ( غمر ) و ( جاهل ) و ( لم يدرس على الشيوخ ) فهذا عكرمة مولى ابن عباس نسب إلى مذهب الإباضية وحط عليه الإمام مالك لهذا وهذا مكحول وقع في القدر وتاب منه وحطوا عليه لذلك.
وتجد رجلاً متروكاً كصالح المري أو يزيد الرقاشي لا يعرفان ببدعة وكثير ممن هو دون هذين في العلم سلم من البدع والضلالات ولكن السلامة من البدعة والضلالة لم تجعل السلف يرفعونهم فوق منزلتهم في العلم.
والله عز وجل يحب الإنصاف فلا يجوز أن تصف رجلاً يدرس كتب ابن تيمية ويحارب الاختلاط والتبرج والتشبه باليهود والنصارى بأنه ليبرالي أو يتنفس هو والليبراليون من رئة واحدة.
ولا يجوز أن تسكت عمن لا يكفر النصارى ويقول الخلاف معهم ديناميكي وينعى بابا النصارى ويطريه ويحمي كنائسهم ، وتسكت على من يترحم على البابا ثم في هذه الأيام فقط تتذكر رسالة نواقض الإسلام وحكم موالاة المشركين، والعجيب أن أول من أطلق التكفير بالموالاة في هذا الحدث العصري لا يكفر من يسب الله حتى يقصد ولا يكفر عباد القبور ولا يكفر القائلين بخلق القرآن.
والنصرة تكون للظالم والمظلوم ، والنصيحة من أعظم النصرة فمن ترحم على الخميني وأثنى عليه ومن قال لا نريد إقامة إمارة إسلامية وهذا الكلام الفاضي ومن لم يحكم الشريعة كان ينبغي نصرته من ذلك اليوم الذي تكلم فيه بهذا الكلام ونصحه ، وأنتم لا إشكال عندكم في النصيحة العلنية والبراءة
العلنية وعوداً على المقال الأصل ، قد كان لي تجربة في أمر اختزال الدين هذا ، والعكوف على مسائل معينة لا أعرف غيرها واكتشفت أنني كنت في عدد منها بين إفراط أو تفريط لجهلي بسير السلف آنذاك ( ولا زلت أقبع في الجهل غير أنه خف عما كان عليه سابقاً )
ولكن كان من اكثر الأمور التي تفتنني ردود المخالفين علي ومن هو على طريقتي فإن كثيراً منها كان يتسم بالظلم والمبالغة والدعوة لبدعة مقابلة وصدقني الإفراط والتفريط كل منهما يسوغ وجود الآخر ، ولن يهتدي أحد بكذبك عليه أو شتمه ، وكانت هناك ملاحظات صحيحة ولكنها تساق في سياق تهويلي فيه شيء من الكذب فكانت هذه فتنتي.
وقد كان السلف أهل تقوى مع الخصوم فلا يكذبون عليهم ويمطرونهم بالحجج تلو الحجج رحمة بهم وحرصاً عليهم.
ومن أعظم الرحمة أن تقول للكافر ( يا كافر ) وللمبتدع ( يا مبتدع ) وأما تمييعك لحقيقة ما هو عليه فهو مكر وتغرير به ، وقد كان السلف وهم أرحم الخلق بالخلق يكثرون من إطلاق هذا في محله وتسميتك للكفر ( خطأ ) وللضلالة العظمى ( زلة ) ظلم أول ما تظلم به المتلبس بها
قال ابن القيم في الروح :” كَذَلِكَ المداراة صفة مدح والمداهنة صفة ذمّ وَالْفرق بَينهمَا أَن المدارى يتلطف
بِصَاحِبِهِ حَتَّى يسْتَخْرج مِنْهُ الْحق أَو يردهُ عَن الْبَاطِل والمداهن يتلطف بِهِ ليقره على باطله ويتركه على هَوَاهُ فالمداراة لأهل الْإِيمَان والمداهنة لأهل النِّفَاق وَقد ضرب لذَلِك مثل مُطَابق وَهُوَ حَال رجل بِهِ قرحَة قد آلمته فَجَاءَهُ الطَّبِيب المداوي الرفيق فتعرف حَالهَا ثمَّ أَخذ فِي تليينها حَتَّى إِذا نَضِجَتْ أَخذ فِي بطها بِرِفْق وسهولة حَتَّى أخرج مَا فِيهَا ثمَّ وضع على مَكَانهَا من الدَّوَاء والمرهم مَا يمْنَع فَسَاده وَيقطع مادته ثمَّ
تَابع عَلَيْهَا بالمراهم الَّتِي تنْبت اللَّحْم ثمَّ يذر عَلَيْهَا بعد نَبَات اللَّحْم مَا ينشف رطوبتها ثمَّ يشد عَلَيْهَا الرِّبَاط وَلم يزل يُتَابع ذَلِك حَتَّى صلحت والمداهن قَالَ لصَاحِبهَا لَا بَأْس عَلَيْك مِنْهَا وَهَذِه لَا شَيْء فاسترها عَن الْعُيُوب بِخرقَة ثمَّ اله عَنْهَا فَلَا تزَال مدَّتهَا تقوى وتستحكم حَتَّى عظم فَسَادهَا.
وَهَذَا الْمثل أَيْضا مُطَابق كل الْمُطَابقَة لحَال النَّفس الأمارة مَعَ المطمئنة فَتَأَمّله فَإِذا كَانَت هَذِه حَال قرحَة بِقدر الحمصة فَكيف بسقم هاج من نفس أَمارَة بالسوء هِيَ مَعْدن الشَّهَوَات ومأوى كل فسق وَقد قارنها شَيْطَان فِي غَايَة الْمَكْر وَالْخداع يعدها ويمنيها ويسحرها بِجَمِيعِ أَنْوَاع السحر حَتَّى يخيل إِلَيْهَا النافع ضارا والضار نَافِعًا وَالْحسن قبيحا والقبيح جميلا وَهَذَا لعَمْرو الله من أعظم أَنْوَاع السحر وَلِهَذَا يَقُول سُبْحَانَهُ فَأنى تسحرون وَالَّذِي نسبوا إِلَيْهِ الرُّسُل من كَونهم مسحورين هُوَ الَّذِي أَصَابَهُم بِعَيْنِه وهم أَهله لَا رسل الله صلوَات الله وَسَلَامه عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ كَمَا أَنهم نسبوهم إِلَى الضلال وَالْفساد فِي الأَرْض وَالْجُنُون والسفه وَمَا استعاذت الْأَنْبِيَاء وَالرسل وأمراء الْأُمَم بالاستعاذة من شَرّ النَّفس الأمارة وصاحبها وقرينها الشَّيْطَان إِلَّا لِأَنَّهُمَا أصل كل شَرّ وقاعدته ومنبعه وهما متساعدان عَلَيْهِ متعاونان رضيعي لبان ثدى أم تقاسما … بأسحم داج عوض لَا ننفرق”
وقال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى (28/54):” وَقَدْ لَا يَنْقَلِعُ الْوَسَخُ إلَّا بِنَوْعِ مِنْ الْخُشُونَةِ؛ لَكِنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ مِنْ النَّظَافَةِ وَالنُّعُومَةِ مَا نَحْمَدُ مَعَهُ ذَلِكَ التَّخْشِينَ”
ولكل مقام مقال ولا يعني هذا التزام الشدة باستمرار ، والشدة لا ترادف الفحش فضلاً عن الظلم وتجاوز الحد وتقصد إغضاب الخصم أو تحزينه بدلاً من تقصد هدايته غير أن المشاهد في كثير من الردود العصرية يجد أن الحكم على المخالف فيها شبه مهمل ، فتجد المرء منهم يبالغ في الرد على المخالف وتزييف حججه ويأتي بما لا يخطر على البال في الرد على بعض الفرق ، ولكن تجد كتابته خلواً من باب العمل مع هذا المخالف وحكمه في الشرع بل بعضهم ليته لا يتكلم في هذا الباب فإنه محل تخبط كثيرين.
فتجد منهم من يناظر الرافضة وينزل الأشرطة والكتب في الرد عليهم حتى يشتهر بذلك ، ثم يفتي بجواز بقاء السنية مع زوجها الرافضي للمناصحة كما أفتى بذلك عثمان الخميس والله المستعان.
وهذه سمة عصرية ككثير من سمات هذا العصر التي لم تسبق في تاريخ الأمة ككثرة التصنيف في العذر بالجهل وكثرة التصانيف في الجهاد وهجر المبتدع وضوابط التكفير وضوابط التبديع من أطراف متباينة وكثرة التصانيف التي تدافع عن شخص بعينه أو تهاجم شخصاً بعينه والذي ينظر الإنصاف في عصرنا والظروف العامة التي تحكمه يدرك سبب هذه ( الظواهر التأليفية المعاصرة ).
ومن أكثر ما تفوته ظاهرة اختزال الدين في بعض المسائل تفويت منهج السلف في تزكية النفوس كما ينبغي على منهج الصحابة والتابعين
بل كثير منهم لا تجده يهتم بفائدة إلا فيما يتعلق بالمسألة الأصلية في ذهنه فلو عرضت عليه عشر فوائد تنبهه إلى أمور في شخصه لا يطبقها فإنه لا يتفاعل معها بقدر ما يتفاعل مع الفائدة المتعلقة بنصرة مذهبه في مسألته الأصلية وقد كان السلف يغضبون من الشذوذ الفقهي غضباً يوازي غضبهم في كثير من مسائل المعتقد.
فالإمام أحمد لما أفتى أبو ثور بجواز مناكحة المجوسيات قال ( لا فرج الله عمن قال بهذه المقالة ) وأحمد قلما يدعو على أحد ، وموقفهم من أهل الرأي معروف وإن كان تم تتميعه لاحقاً والله المستعان ، وهذا يضرب ظاهرة اختزال الدين في الصميم.
وقد كان بعض المحدثين يفتون بتأديب من يحدث ببعض الأحاديث المنكرة كما ذكر ذلك أبو يعلى ذلك في إبطال التأويلات ، وقد جلد بعض المحدثين ألف جلدة بسبب تحديثه بخبر منكر ولكن مع الاختزال الموجود ما إن توافقني في مسألتي أو مسائل الأصلية فلا يهمني بعد ذلك ما يقع منك وربما كان عندي بعض الديانة لأناصحك ولكن ولائي يكون لك عظيماً أو حتى لا ينقص بل إذا جاء مخالف لنا في مسألتنا وانتقد عليك هذا فسأنبري للدفاع عنك رأساً ولو بالسفسطة فقد تحصل على ردتي فعل متناقضتين تماماً تجاه سقطة واحدة ولكن لاختلاف الشخص الواقع فيها فتأتي إلى شخص فتقول فلان الذي يخالفك في مسألة العذر وقع في السقطة الفلانية فيكون الجواب : ( هذا شيء متوقع هو جاهل
أصلاً رد عليه وافضحه هذا المتعالم ) أو نحواً من هذا الكلام.
وتأتي إلى نفس الشخص وتقول فلان الذي يوافقك في مسألة العذر وقع في السقطة الفلانية فيكون الجواب : ( انصحه هو أصلاً يقبل النصح [ وتأمل كيف أنه هو لا ينصحه ] ومن الذي لا يخطيء يا أخي ) فإذا رددت عليه ووجد ردك علمياً كانت آخر ورقة يلعب بها ( أسلوبك يا أخي شديد وأطلقت في الشيخ كلمات لا يستحقها وكتلة التقى الذي تتحدث عنه ينبغي ألا يحفل بشدتي ويرجع للحق بل يفرح بها ويقول بذنب أصبته ].
فإذا كان الانتقاد موجهاً من شخص يخالف في المسألة الأصلية كان الدفاع جاهزاً ( يا أخي العالم فلان وقع في كذا وكذا ) أو أي دفاع والذي تمكن منه التعصب أمام الزلة نفسها قد يكتب رداً ( إذا كان الواقع فيها مخالفاً له ) ويكتب دفاعاً ( إذا كان الواقع فيها موافقاً ).
وأما الإمام أحمد فبدع أبا ثور بل جهمه لقوله في حديث الصورة مع أن أبا ثور كان يشهد للإمام أحمد بالجنة ، فهذا الفرق بينا وبين السلف ولست أدعو لترك الولاء والبراء على كان يوالي السلف عليه ويعادون ولكنني أدعو لتوسيع ليشمل كل ما كانوا يوالون ويعادون عليه وألا يختزل في مسائل معينة فندخل في إرجاء ( لا يضر مع المسألة الفلانية ذنب ).
وإنني لأعجب من قوم يتصاحبون سنين ويتبادلون التزكيات حتى إذا فسد ما بينهم صاروا يذكرون لبعضهم لسقطات قبل عشر سنين أو خمسة عشر بل وثلاثين ! وهذا لون من الفجور فريد من نوعه.
بل رجلان في مستوى علمي واحد هذا ( علامة ) وهذا ( جاهل ) بحسب الموافقة في المسألة الأصلية بل ربما كان ( الجاهل ) أعلم بكثير.
وهنا يحل بعضهم حبوته ويقول ( ليس العلم بكثرة الرواية كما قال البربهاري )
فأقول : فلماذا تصف الجهمية التائهين في مسائل الاعتقاد على مذهب الأشاعرة ب( الأئمة ) و ( الحفاظ )
وبعضهم شخصه أو شخص شيخه هو المعيار فتجده يلبس ثوب المنصف مع بعض الجهمية ويقول ( خدم الإسلام ) ولكن من يتكلم في شيخه أو شخصه لا يقبل منه صرف ولا عدل.
هذا ما جادت به النفس نصحاً للإسلام والمسلمين وما أبريء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء.
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.