متى ينتهي التدليس على ابن تيمية؟!
مجلس مديح نبوي فيه إنشاد وطلب من النبي ﷺ، يحضره شيخ الإسلام ابن تيمية ويبكي.
هذا العنوان يوضع لمجموعة من العوام والمبتدئين لإيهامهم أن ابن تيمية لم يكن يشدد في أمر الحضرات الصوفية تشديد السلفية المعاصرة.
يورد صاحب هذا العنوان ما يلي:
وقد حضر شيخُ الإسلام ابنُ تيميةَ -قدّس الله روحه- مجلسا فيه إنشاد لبعض مدائحه وبكى واشتد نحيبه وتغير حاله!
فقد نقل تلميذه ابن القيم أنه سمع مُنشدًا ينشدُ أبياتَ الصَّرصريِّ التي أوّلُها:
“ذَكَرَ العَقيقَ فهاجَهُ تَذكارُهُ”
قال ابن القيم:
فلما وصل إلى قولِه:
يا مَن ثَـوىٰ بين الجوانحِ والحَـشا
منِّي وإن بعُــــــدَتْ عليّ ديــارُهُ
عطفًا علىٰ قلبٍ بحبِّـــــكَ هٰــــائمٍ
إن لّم تصِـــــلْه تَصدّعتْ أعشارُهُ
وارحمْ كئيبًا فيك، يقضي نحْـــبَهُ
أسفًا عليكَ، وما انقضت أوطارُهُ
لا يســــتفيقُ من الغـــرام، وكلما
حجبـــــــوك عنه تَهــتّكت أستارُهُ
أقول: وبعضهم يذكر هذه القصة في سياق مدح استغاثات الصرصري، والتعليق على هذا في ثلاثة مقامات:
الأول: موقف ابن تيمية من استغاثات الصرصري في أشعاره.
الثاني: موقف ابن تيمية من مجالس السماع الصوفية.
الثالث: قصة هذا المجلس والتي لم يذكرها هذا المقتبس.
أما المقام الأول: فقال الشيخ كما في مجموع الفتاوى (١/ ٧٠): “ولهذا أنكرنا على الشيخ يحيى الصرصري: ما يقوله في قصائده في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم من الاستغاثة به مثل قوله: بك أستغيث وأستعين وأستنجد. ونحو ذلك”.
فالشيخ كان يستنكر الأمر ومعلوم أنه يراه شركًا، فلا يهون في الأمر ولا يسكت عليه، بل ينص على أنه أنكره، وهذا خلافًا لما أوهمه النقل المجتزأ.
وأما المقام الثاني: فيقول الشيخ كما في اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم (١/ ٩٠): “ثم إن الضالين تجد عامة دينهم إنما يقوم بالأصوات المطربة، والصور الجميلة، فلا يهتمون بأمر دينهم بأكثر من تلحين الأصوات، ثم تجد قد ابتليت هذه الأمة من اتخاذ السماع المطرب، بسماع القصائد وإصلاح القلوب والأحوال به ما فيه مضاهاة لبعض حال الضالين، وقال سبحانه: {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء} [البقرة: ١١٣] فأخبر أن كل واحدة من الأمتين تجحد كل ما الأخرى عليه”.
وأطال الشيخ في الاستقامة في بيان المنع من هذه المجالس.
وقال كما في مجموع الفتاوى: “فمن اتخذ نظير هذا السماع عبادة وقربة يتقرب بها إلى الله فقد ضاهى هؤلاء في بعض أمورهم وكذلك لم تفعله القرون الثلاثة التي أثنى عليها النبي صلى الله عليه وسلم ولا فعله أكابر المشايخ”.
والنقل المذكور أصالة من كتب الكلام على مسألة السماع لابن القيم، والكتاب كله في بيان المنع من هذه المجالس!
فما قصة ذكر ابن القيم لهذا المجلس وسماع الشيخ هذه الأبيات وتأثره بها وقد علم منع الشيخ من هذه المجالس؟
قصة هذا المجلس أن ابن القيم تكلم عما ذكره بعض الشيوخ من أنه سمع أبياتًا فتأثر بها ونفعه ذلك في أحواله.
فقال ابن القيم ما يلي في كتابه الكلام على مسألة السماع بعدما ذمَّ مجالس السماع: “وهذا الكلام كله (يعني الذم) كله في قصد الاجتماع عليه وطلب التقرب به وعده من أفضل القرب ومما تصلح عليه القلوب، وأما من لم يقصده (تأمَّل هذه) ولا هو من مطالبه فاتفق أنه صادف شيئًا فصادفه سماع ما يناسب حاله بمنزلة الفأل لمن خرج في حاجة فهذا لا يستضر به وقد ينتفع به ويتأثر”.
ثم ذكر قصصًا عديدة عن أناس سمعوا غناء مغنين وقصائد عشق وغرام ما كانوا يقصدون سماعها ولكن لما سمعوا الأبيات ذكَّرتهم بمعانٍ صحيحة، مثل رجل سمع شخصًا يتشوق إلى وطنه فتذكَّر الوطن الأم: الجنة.
وذكر في هذا السياق قصة ابن تيمية، وواضح من كلام ابن القيم أن ابن تيمية لم يتقصَّد حضور المجلس، وإنما صادف ذلك مصادفةً، لأن هذا هو شرط ابن القيم فيما يذكره، وإلا فابن القيم يعتقد أن الاجتماع على هذا ضلالة.
ولو كنا سنأخذ باستدلال هؤلاء على التهوين من شأن مجالس السماع لاستدللنا على التهوين من شأن أغاني الفساق لأن ابن القيم ذكرها في الباب.
ثم ابن تيمية كان يأتي بأبيات المشركين ويقول لابن القيم: لا ينبغي هذا إلا لله. فهو يقولها على قصد مخاطبة الله.
وقال ابن القيم في آخر هذا الفصل: “فهذا مما ينتفع به السامع ولا يتضرر به إذا صادفه مصادفةً فاستراح به، ولو تكلَّفه لكان له فتنة ومحنة”.
وابن القيم يقول هي كالفأل، بمعنى أن تأثُّر المتأثِّر بها لا يعني أنه يقرُّ المعنى الذي يريده الشاعر، وإنما قد يذكِّره ذلك بمعنى يهيِّجه، كما نبَّهنا على أن بعضهم حصل له ذلك مع قصائد غزل أو حب أوطان.
وأعلم جيدًا أنه بعد هذا التعقب سيأتي الاعتذار البارد المعتاد، وهو أن الناقل يعلم ذلك ولكنه قصد قدرًا من الفائدة، وهذا تلبيس، فعامة من سيقرأ الكلام سيفهم أن الشيخ يتقصد حضور مجالس السماع ويستهين بأمر الشرك فيها ولا ينكره، وعامتهم لن يفهموا داعي ذكر ابن القيم للأمر وأنه ذكره في كتاب بُنِي على إنكار هذه الأمور أصلًا.
ولكن الشقي حقَّ الشقاء من فتح الله له شيئًا من باب العلوم فبدلًا من أن تصير سببًا في رفعة درجاته صيَّر ذلك سببًا في التلبيس على الخلق والمناكفات والتهوين من شأن العظائم.
ومن اللطائف في هذا الباب ما جاء في ذيل طبقات الحنابلة (٢/ ٣٦٦) في ترجمة علي بن محمد بن علي بن الزيتوني المعرف بالبراندسي:
“قال ابن القطيعي: وفي سنة اثنين وسبعين، عملت دعوة للصوفية والعلماء على اختلاف مذاهبهم، فمنهم من أكل وانصرف، ومنهم من حضر السماع، وكان البراندسي ممن عجز عن الخروج مع من أكل وانصرف، فأقام وأغلق الباب دونه، وحضر السماع، فحيث علم أهل باب البصرة تخلفه دون جميع أصحابه كابن الجوزي، وابن عبد القادر، قالوا فيه الشعر. وهجره جماعة من عوامهم. فأنشدني الشيخ أَبُو عبد الله الخياري لنفسه فيه:
أيها الشيخ، من ينافق خلوة … يظهر الله ذلك الفعل جلوة
كنت تفتي أن السماع حرام … كيف حل السماع يوم الدعوة؟
عشت ما عشت بين زهد ونسك … وتسميت في الشريعة قدوة
ثم خلعت العذار في اللهو والرقص … وبين البلى وبينك خطوة
كنت حقا لو رقص الطفل حوقلت … وأنكرت بارتعادٍ وسطوة
كيف جاز الجلوس بين حُداة … لم يفت في سماعهم غير قهوة؟
لا تبهرج فليس عندك عذر … يلزم القوم ما أتوا بك عنوة
إنما أنت حين خبرت أن الرقص … من بعده صحاح وكسوة
ودجاج وبط حثك البخل … فلا تعتر بقولك شقوة
ودع الآن شغلك بالفقه … وخذ في لباس دلق وركوة
قال: وسمعت ابن الجوزي يقول: دخل البراندسي الدعوة وأكل، وأراد الانصراف معنا، فأُغلق الباب دونه. وما علم حقيقة ما يجري، وحصل هناك، لا أنه اختار هذا”.
فالحنابلة من قبل ابن تيمية على الإنكار في هذا والتشديد فيه.