ما علمه يوسف بن تاشفين وجهله أهل الجشع…

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

جاء في كتاب «الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى» لشهاب الدين الجعفري [2/60]:

“وكان ملكه قد انتهى إلى مدينة أفراغه من قاصية شرق الأندلس وإلى مدينة أشبونة على البحر المحيط من بحر الأندلس وذلك مسيرة ثلاثة وثلاثين يوما طولا وفي العرض ما يقرب من ذلك
وملك بعدوة المغرب من جزائر بني مذغنة إلى طنجة إلى آخر السوس الأقصى إلى جبال الذهب من بلاد السودان

ولم ير في بلد من بلاده ولا عمل من أعماله على طول أيامه رسم مكس ولا خراج لا في حاضرة ولا في بادية إلا ما أمر الله به وأوجبه حكم الكتاب والسنة من الزكوات والأعشار وجزيات أهل الذمة وأخماس الغنائم

وقد جبى في ذلك من الأموال على وجهها ما لم يجيبه أحد قبله يقال إنه وجد في بيت ماله بعد وفاته ثلاثة عشر ألف ربع من الورق وخمسة آلاف وأربعون ربعا من مطبوع الذهب
وكان رحمه الله زاهدا في زينة الدنيا وزهرتها ورعا متقشفا لباسه الصوف لم يلبس قط غيره ومأكله الشعير ولحوم الإبل وألبانها مقتصرا على ذلك لم ينقل عنه مدة عمره على ما منحه الله من سعة الملك وخوله من نعمة الدنيا وقد رد أحكام البلاد إلى القضاة وأسقط ما دون الأحكام الشرعية وكان يسير في أعماله بنفسه فيتفقد أحوال الرعية في كل سنة وكان محبا للفقهاء وأهل العلم والفضل مكرما لهم صادرا عن رأيهم يجري عليهم أرزاقهم من بيت المال وكان مع ذلك حسن الأخلاق متواضعا كثير الحياء جامعا لخصال الخير رحمه الله تعالى ورضي عنه”.

أقول: الكلام هنا عن يوسف بن تاشفين.

تأمل أنه ما كان يأخذ المكوس (الضرائب) ولا يأخذ من الناس إلا ما أذن به الشرع، ومع ذلك اجتمع في بيت ماله ما لم يجتمع في بيت مال ملك قبله.

فكيف هذا؟

الجواب: أن ذلك بسبب زهده، فكثير من الولاة يضيِّقون على الناس بسبب سرفهم وسرف حاشيتهم ودخولهم في التوسع في المباحات بل والمحرمات، ويكون الأمر مثل النار التي ما رميتَ بها أكلته، هكذا هو جشع من أدمن السرف في المحرمات.

وهذا ليس مختصاً بالولاة، بل عموم الناس في سياسة الأموال عليهم أن يراعوا هذا المعنى: أن كثيراً من العنت المالي إنما يأتي من التوسع في المباحات، كما أن الدخول في المحرمات يمحق البركة.

ومن هاهنا يُتسامح في الشبهات، ثم يدخلون في المحرمات الصريحة ولا يجدون الراحة.

وقد قيل قديماً: ما عال من اقتصد (يعني لم يفتقر من اقتصد في مأكله ومشربه وملبسه ولم يسرف).

ثم إن العدل له بركة معنوية وبركة مشاهدة مِن ضعفِ حركات التمرد، لضعف حججها، ومن ثَمّ تقل الحاجة إلى الإنفاق العسكري العظيم.

فإن كثيراً من الظلمة يضطرون إلى الإفراط في الإنفاق الأمني وإرضاء حواشيهم ليدوم لهم الأمر.