قال ابن القيم في شفاء العليل (1/74) :
“والأطباء تزعم أن الحقنة أخذت من طائر طويل المنقار إذا تعسر
عليه الذرق جاء إلى البحر المالح وأخذ بمنقاره منه واحتقن به فيخرج الذرق بسرعة .
وهذا الثعلب إذا اشتد به الجوع انتفخ ورمى بنفسه في الصحراء كأنه جيفة
فتتداوله الطير فلا يظهر حركة ولا نفسا فلا تشك أنه ميت , حتى إذا نقر بمنقاره وثب
عليها فضمها ضمة الموت .
وهذا ابن عرس والقنفذ إذا أكلا الأفاعي والحيات عمدا إلى الصتر النهري
فأكلاه كالترياق لذلك
ومن عجيب أمر الثعلب أنه إذا أصاب القنفذ قلبه لظهره لأجل شوكة فيجتمع
القنفذ حتى يصير كبة شوك فيبول الثعلب على بطنه ما بين مغرز عجبه إلى فكيه فإذا
أصابه البول اعتراه الأسر فانبسط فيسلخه الثعلب من بطنه ويأكل مسلوخه
وكثير من العقلاء يتعلم من الحيوانات البهم أمورا تنفعه في معاشه
وأخلاقه وصناعته وحربه وحزمه وصبره
وهداية الحيوان فوق هداية أكثر الناس
قال تعالى أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالانعام بل
هم أضل سبيلا قال أبو جعفر الباقر والله ما اقتصر على تشبههم بالأنعام حتى جعلهم
أضل سبيلا منها.
فمن هدى الأنثى من السباع إذا
وضعت ولدها أن ترفعه في الهواء أياما تهرب به من الذر والنمل لأنها تضعه كقطعة من
لحم فهي تخاف عليه الذر والنمل فلا تزال ترفعه وتضعه وتحوله من مكان إلى مكان حتى
يشتد .
وقال ابن الأعرابي قيل لشيخ من قريش من علمك هذا كله وإنما يعرف مثله
أصحاب التجارب والتكسب قال علمني الله ما أعلم الحمامة تقلب بيضها حتى تعطي
الوجهين جميعا نصيبهما من حضانتها ولخوف طباع الأرض على البيض إذا استمر على جانب
واحد .
وقيل لآخر من علمك اللجاج في الحاجة والصبر عليها وإن استعصت حتى تظفر
بها
قال من علم الخنفساء إذا صعدت
في الحائط تسقط ثم تصعد ثم تسقط مرارا عديده حتى تستمر صاعدة .
وقيل لآخر من علمك البكور في حوائجك أول النهار لا تخل به قال من علم
الطير تغدو خماصا كل بكرة في طلب أقواتها على قربها وبعدها لا تسأم ذلك ولا تخاف
ما يعرض لها في الجو والأرض .
وقيل لآخر من علمك السكون والتحفظ والتماوت حتى تظفر بأربك فإذا ظفرت
به وثبت وثوب الأسد على فريسته فقال الذي علم السهر أن ترصد جحر الفأرة فلا تتحرك
ولا تتلوى ولا تختلج كأنها ميتة حتى إذا برزت لها الفأرة وثبت عليها كالأسد .
وقيل لآخر من علمك الصبر والجلد والاحتمال وعدم السكون قال من علم أبا
أيوب صبره على الأثقال والاعمال الثقيلة والمشي والتعب وغلظة الجمال وضربه فالثقل
والكل على ظهره ومرارة الجوع والعطش في كبده وجهد التعب والمشقة ملأ جوارحه ولا
يعدل به ذلك عن الصبر وقيل لآخر من علمك حسن الإيثار والسماحة بالبذل قال من علم
الديك يصادف الحبة في الأرض وهو يحتاج إليها فلا يأكلها بل يستدعي الدجاج ويطلبهن
طلبا حثيثا حتى تجيء الواحدة منهن فتلقطها وهو مسرور بذلك طيب النفس به وإذا وضع
له الحب الكثير فرقه هاهنا وهاهنا وإن لم يكن هناك دجاج لأن طبعه قد ألف البذل
والجود فهو يرى من اللؤم أن يستبد وحده بالطعام .
وقيل لآخر من علمك هذا التحيل في طلب الرزق ووجوه تحصيله قال من علم
الثعلب تلك الحيل التي يعجز العقلاء عن علمها وعملها وهي أكثر من أن تذكر
ومن علم الأسد إذا مشى وخاف أن يقتفى أثره ويطلب عفى أثر مشيته بذنبه
ومن علمه أن يأتي إلى شبله في اليوم الثالث من وضعه فينفخ في منخريه
لأن اللبؤة تضعه جروا كالميت فلا تزال تحرسه حتى يأتي أبوه فيفعل به ذلك
ومن الهم كرام الأسود وأشرافها أن لا تأكل إلا من فريستها وإذا مر
بفريسة غيره لم يدن منها ولو جهده الجوع
ومن علم الأسد أن يخضع للبر ويذل له إذا اجتمعا حتى ينال منه له
ومن عجيب أمره أنه إذا استعصى عليه شيء من السباع دعا الأسد فأجابه
إجابة المملوك لمالكه ثم أمره فربض بين يديه فيبول في أذنيه فإذا أراد السباع ذلك
أذعنت له بالطاعة والخضوع ومن علم الثعلب إذا اشتد به الجوع أن يستلقي على ظهره
ويختلس نفسه إلى داخل بدنه حتى ينتفخ فيظن الظان أنه ميتة فيقع عليه فيثب على من
انقضى عمره منها
ومن علمه إذا أصابه صدع أو جرح أن يأتي إلى صبغ معروف فيأخذ منه ويضعه
على جرحه كالمرهم
ومن علم الدب إذا أصابه كلم أن يأتي إلى نبت قد عرفه وجهله صاحب
الحشائش فيتداوى به فيبرأ
ومن علم الأنثى من الفيلة إذا دنا وقت ولادتها أن تأتي إلى الماء فتلد
فيه لأنها دون الحيوانات لا تلد إلا قائمة لأن أوصالها على خلاف أوصال الحيوان وهي
عالية فتخاف أن تسقطه على الأرض فينصدع أو ينشق فتأتي ما وسطها تضعه فيه فيكون
كالفراش اللين والوطاء الناعم
ومن علم الذباب إذا سقط في مائع آن يتقي بالجناح الذي فيه الداء دون
الاخر
ومن علم الكلب إذا عاين الظباء آن يعرف المعتل من غيره والذكر من
الأنثى فيقصد الذكر مع علمه بأن عدوه أشد وأبعد وثبة ويدع الأنثى على نقصان عدوها
لأنه قد علم أن الذكر إذا عدا شوطا أو شوطين حقن ببوله
وكل حيوان إذا اشتد فزعه فإنه يدركه الحقن وإذا حقن الذكر لم يستطع البول
مع شدة العدو فيقل عدوه فيدركه كالكلب وأما الأنثى فتحذف بولها لسعة القبل وسهولة
المخرج فيدوم عدوها ومن علمه أنه إذا كسا الثلج الأرض أن يتأمل الموضع الرقيق الذي
قد انخسف فيعلم ان تحته جحر الأرنب فينبشه ويصطادها علما منه بأن حرارة أنفاسها
تذيب بعض الثلج فيرق
ومن علم الذئب إذا نام أن يجعل النوم نوبا بين عينيه فينام بإحداهما
حتى إذا نعست الأخرى نام بها وفتح النائمة حتى إذا قال بعض العرب
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي … بأخرى المنايا فهو يقظان نائم
ومن علم العصفور إذا سقط فرخها أن تستغيث فلا يبقى عصفور بجوارها حتى
يجيء فيطيرون حول الفرخ ويحركونه بأفعالهم ويحدثون له قوة وهمة وحركة حتى يطير
معهم
قال بعض الصيادين ربما رأيت العصفور على الحائط فأومئ بيدي كأني أرميه
فلا يطير وربما أهويت إلى الأرض كأني أتناول شيئا فلا يتحرك فإن مسست بيدي أدنى
حصاة أو حجر أو نواة طار قبل أن تتمكن منها يدي
ومن علم الحمامة إذا حملت أن تأخذ هي والأب في بناء العش وأن يقيما له
حروفا تشبه الحائط ثم يسخناه ويحدثا فيه طبيعة أخرى ثم يقلبان البيض في الأيام ومن
قسم بينهما الحضانة والكد فأكثر ساعات الحضانة على الأنثى وأكثر ساعات جلب القوت
على الأب وإذا خرج الفرخ علما ضيق حوصلته عن الطعام فنفخا فيه نفخا متداركا حتى
تتسع حوصلته ثم يزقانه اللعاب أو شيئا قبل الطعام وهو كاللبا للطفل ثم يعلمانه
احتياج الحوصلة إلى دباغ فيزقانه من أصل الحيطان من شيء بين الملح والتراب تندبغ
به الحوصلة فإذا اندبغت زقاه الحب فإذا علما انه أطاق اللقط منعاه الزق على
التدريج فإذا تكاملت قوته وسألهما الكفالة ضرباه
ومن علمهما إذا أراد السفاد أن يبتدئ الذكر بالدعاء فتتطارد له الأنثى
قليلا لتذيقه حلاوة المواصلة ثم تطيعه في نفسها ثم تمتنع بعض التمنع ليشتد طلبه
وحبه ثم تتهادى وتتكسل وتريه معاطفها وتعرض محاسنها ثم يحدث بينهما من التغزل
والعشق والتقبيل والرشف ما هو مشاهد بالعيان
ومن علم المرسلة منها إذا سافرت ليلا أن تستدل ببطون الودية ومجاري المياه
والجبال ومهاب الريح ومطلع الشمس ومغربها فتستدل بذلك وبغيره إذا ضلت فاذا عرفت
الطريق مرت كالريح ومن علم اللبب وهو صنف من العناكب أن يلطأ بالأرض ويجمع نفسه
فيرى الذبابة أنه لاه عنها ثم يثب عليها وثوب الفهد
ومن علم العنكبوت آن تنسج تلك
الشبكة الرفيعة المحكمة وتجعل في أعلاها خيطا ثم تتعلق به فإذا تعرقلت البعوضة في
الشبكة تدلت إليها فاصطادتها
ومن علم الظبي أنه لا يدخل كناسة إلا مستدبرا ليستقبل بعينيه ما يخافه
على نفسه وخشفه ومن علم النسور إذا رأى فأرة في السقف آن يرفع رأسه كالمشير إليها بالعود
ثم يشير إليها بالرجوع وإنما يريد أن يدهشها فتزلق فتسقط
ومن علم اليربوع أن يحفر بيته في سفح الوادي حيث يرتفع عن مجرى السيل
ليسلم من مدق الحافر ومجرى الماء ويعمقه ثم يتخذ في زواياه أبوابا عديدة ويجعل
بينها وبين وجه الأرض حاجزا رقيقا فإذا أحس بالشر فتح بعضها بأيسر شيء وخرج منه ولما
كان كثير النسيان لم يحفر بيته إلا عند اكمة أو صخرة علامة له على البيت إذا ضل
عنه
ومن علم الفهد إذا سمن أن يتوارى لتقل الحركة عليه حتى يذهب ذلك السمن
ثم يظهر
ومن علم الأيل إذا سقط قرنه أن يتوارى لأن سلاحه قد ذهب فيسمن لذلك
فإذا كمل نبات قرنه تعرض للشمس والريح واكثر من الحركة ليشتد لحمه ويزول السمن
المانع له من العدو
وهذا باب واسع جدا يكفي فيه قوله سبحانه وما من دابة في الأرض ولا
طائر يطير بجناحيه إلا أمم امثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون
“
أقول : فسبحان القائل على لسان موسى
((رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى )) ، وهذا جواب
موسى لفرعون لما سأله عن ربه ، ودليل الهداية من أعظم أدلة الربوبية وبراهين
الألوهية ، فاهتداء كل مخلوق إلى ما ينفعه دليل على وجود الخالق المستحق للعبادة
ويا ليت شعري الحيوانات مع كل هذا لا
تصنع ما يضرها في آخرتها إضراراً يوجب عليها التعرض لعذاب النار كما يفعل كثير من
بني آدم ويتمنون يوم القيامة لو صار مصيرهم مصير البهائم العجماء
فخاب وخسر من كانت البهائم أحسن حالاً
منه في الدنيا فهي تنطلق إلى ما ينفعها وتسبح بحمد ربها ، وأحسن حالاً منه في
الآخرة
فأي خيبة وخسران أعظم من أن تكون من صلب
من خلقه الله بيده وخلقه على صورته وأسجد له ملائكته ، وأعد للمتقين من أبنائه
جنات عرضها السموات والأرض فيضل عن هذا كله ، ثم يصير يتمنى لو كان بهيمة عجماء
ويقول ( يا ليتني كنت تراباً )
فيا للخيبة والخسران
وهذه البهائم قد نفع العرب صحبتها
والنظر في أحوالها ، ومن بني آدم من إذا صاحبته أرداك في الضلالة فهو كنافخ الكير
، وإذا اكتمل خسرانك كنت ممن يقول ( يَا
وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي
عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا)
فبعداً لمن صحبة البهائم العجماء خيرٌ
من صحبته ، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه في زمن الفتن يكون خير مال
امريء مسلم غنماً يتبع بها شغف الجبال ومواضع القطر
فتلك أزمنة صحبة البهائم فيها خير من
صحبة البشر !
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم