ماذا لو عاش المعاصرون في تلك الحقبة بعقلية عصرنا هل سيكتبون هذه الكتب؟

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

جاء في كتاب «موجز التاريخ الإسلامي منذ عهد آدم عليه السلام (تاريخ ما قبل الإسلام) إلى عصرنا الحاضر» 1417 هـ /96-97 م لأحمد معمور عسيري صـ210: “سيطرة دول الشيعة:-
تميزت هذه الفترة بسيطرة الشيعة على مناطق واسعة، حيث قامت لهم ممالك ودول، فالدولة البويهية حكمت العراق وفارس والري والكرج والأهواز. والدولة العبيدية (الفاطمية) دانت لها المغرب ثم مصر وأجزاء من الشام. والدولة الحمدانية في الموصل والشام، والقرامطة حكموا البحرين والحجاز. والدولة السامانية قامت في بلاد ما وراء النهر.
في هذه الفترة وضعت أسس ومبادئ التشيع، ووضع عن آل البيت أقوال وأفعال لم تصدر عنهم أبدًا (نتيجة هيمنة الدول الشيعية)، وكثر القتال وزادت الفتن بين السنة والشيعة”.

أقول: مع اختلاف هذه الدول في درجات التشيع إلا أنها مباينة للمنتسبين للسنة، سواءً كانوا من أهل الحديث أو الأشاعرة أو الماتردية أو حتى المعتزلة والكرامية وغيرها من الفرق.

هذه الفترات المظلمة من التاريخ تبُثُّ الأمل في نفسي أكثر من الأوقات المشرقة، وذلك أنك إذا رأيتها مع شدة ظلمتها زالت ينبعث في نفسك الأمل بزوال كثير مما نراه من الشر.

ولكن دعني أسأل سؤالاً: حين يقرأ المرء المعاصر عن هذا ما الذي سيتوقعه من العلماء المشتغلين بالجدل العقدي وحتى الفقهي؟

أقول: غالباً سيظن -بالعقلية العصرية التزاحمية- أنهم تركوا كل شيء واشتغلوا بحرب التشيع فحسب، خصوصاً وأن انتشار التشيع متوقَّع مع وجود هذه الدول.

والحق أن هذه الحقبة شهدت تصنيف أهم الكتب العقائدية التي يعتمد السلفيون عليها في جدلهم مع الفرق الأخرى خصوصاً الأشاعرة والماتردية.

فالدولة البويهية انطلقت عام 334 واستمرت 120 عاماً تقريباً، والفاطمية كانت أطول عمراً، والحمدانية انطلقت قبل البويهية بأربعة أعوام واستمرت ثلاثة وسبعين عاماً (والأمَّة لم تعدم عدواً خارجياً أيضاً).

وعليه لنلقي نظرة على الإرث العقائدي في تلك المرحلة:

كتَب الآجري المتوفى عام 360 كتاب «الشريعة» وذكر فضائل الصحابة، ولكنه أيضاً ذكر مباحث الصفات وتوسع فيها جداً والإيمان والقدر، وأغلظ المقال في الخصوم، وذكر قول من يقول: “القرآن حكاية” (وهو قول الكلابية ومِن بعدهم الأشعرية) فقال: “وقائل هذا مبتدع، خبيث ولا يكلم، ولا يجالس، ويحذر منه الناس، لا يعرف العلماء غير ما تقدم ذكرنا له”.

وكتَب الدارقطني المتوفى 385 كتُبه «النزول» و«الرؤية» و«الصفات»، وكلها في الرد على نفاة الصفات، وله كتاب في «فضائل الصحابة» أيضاً.

وكان أبو حامد الإسفراييني الذي ولد 344 أي في ظل الدولة البويهية وتوفي عام 406 أي قبل سقوطها بزمن يحذِّر عامة الناس من الباقلاني شيخ الأشعرية، ذكره ابن تيمية عن الكرجي في الدرء [2/96].

وقد توفي ابن شاهين في العام نفسه الذي توفي فيه الدارقطني، وله مؤلفات عديدة منها: «الكتاب اللطيف لشرح مذاهب أهل السنة»، وردَّ على كل المبتدعة من رافضة وغيرهم، وذكر مسائل الصفات.

وأما ابن بطة الحنبلي فقد توفي عام 387، وله كتاب «الإبانة» وله «الإبانة الصغرى» التي فيها ذم ابن كلاب وتكفيره، وفي «الإبانة الكبرى» ردٌّ على كل فرق أهل الباطل من رافضة وغيرهم، وأطول فصول الكتاب في أبواب الصفات.

وأما محمد بن إسحاق ابن مندة فقد توفي عام 395، وله كتب عديدة، منها: «التوحيد والرد على الجهمية» و«الإيمان» كلها في قضايا الاعتقاد، وله مجلس صرح فيه بذكر الأشعرية ونعتهم بالزندقة.

وفي المغرب ابن أبي زمنين المتوفى عام 399، له كتاب في «أصول السنة» ردَّ فيه على كل أهل البدع وذكر مسائل الصفات وأعطاها حقها.

واللالكائي المتوفى عام 412 له كتاب «شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة» وهو من أوسع الكتب العقدية وأجمعها، وذكر قضايا الصفات، ونال من القائلين بالحكاية (مذهب الأشاعرة)، وصرح بتكفير الجهمية بأنواعهم.

وأيضاً السجزي المتوفى عام 444 له «الرد على من أنكر الحرف والصوت»، وكله في الرد على الأشعرية، ووصَفهم بأئمة الضلالة، وفيه أن منكر القرآن العربي (أي القائل بخلقه) كافر باتفاق الفقهاء.

أكتفي بهذا القدر، وإلا فهناك كتب أخرى، ولكن هذه الكتب مشهورة جداً حتى في زماننا، وكثير من طلاب العلم لا يدرون أنها صنِّفت في وقت سيطرة البويهيين على قلب العالم الإسلامي والفاطميين على غربِه، وكثير منها صنِّف مع وجود دول شيعية أخرى موازية.

لم يفكِّر العلماء البتة بتأجيل الكلام في العقيدة، بحجة ترتيب الأولويات أو فقه المرحلة أو التفرغ للشيعة والعدو الخارجي، والواقع أنهم واجهوا كل الأعداء بكفاءة عظيمة ونجحوا، وبقي لهم إرثٌ ننتفع به إلى يومنا.