هناك كتاب خرج بعد جائحة كورونا بوقت يسير كان بعنوان: (Pillars: How Muslim Friends Led Me Closer to Jesus) (كيف قادني الأصدقاء المسلمون إلى التقرب من يسوع) للكاتبة: راشيل بييه جونز.
خلاصة الكتاب أنها جاءت بأركان الإسلام الخمسة وبيَّنت آثارها الإيجابية عليها، وأنها قوَّت تدينها المسيحي، وحاولت قدر المستطاع أن تبحث عن نظائر نصرانية لهذه الأركان الخمسة (وتكلفت في ذلك تكلفاً عظيماً).
حين يعيش الإنسان في مجتمع لاديني رأسمالي غربي تتسلل فيه نتائج ما بعد الحداثة؛ فإنه يعاني من مشكلات عظيمة، قد لا يبصرها كثير من المفتونين بالنموذج الغربي.
فحين يتحدث إنسان منهم عن أن الزكاة علمته السخاء والشعور بالآخرين؛ فلا تستهن بالأمر، فإن كثيراً منهم يحب خلق السخاء ولكن لا يعرف كيف يتعلمه، خصوصاً من مر منهم بضائقة مالية وتعرَّض للإذلال أو غدر صديق كان كريماً معه، فإنه غالباً سيوسوس وكلما أراد التعاطف مع إنسان عقد المقارنة بينه وبين هذا الإنسان ورجح نفسه على هذا الإنسان، هذا الأمر يسري في نفوس كثير جداً منهم، خصوصاً مع عدم وجود واجبات شرعية تحثُّ على الإحسان للآخرين بشكل منضبط.
وكذلك إذا حدثك عن أنه جرب الصيام فتعلَّم منه الصبر وتحسنت حياته؛ فلا تستهن بالأمر، فإن عقلية (عدم الصبر عن المتعة عند حضورها) وسيطرة الشهوة على العقل عقليةٌ سائدة هناك، وهي الأساس لحصول إدمان الكحول؛ أو المخدرات؛ أو الإباحية، وكثير منهم يخاف من سيطرة هذا الأمر عليه لأنه سيكون سبباً في فقدانه عمله أو أسرته أو من يعيش معه.
وكذلك إذا كلمك عن محبته لفكرة تقبُّل الذات لأن {أكرمكم عند الله أتقاكم}، وإذا حدثه شخص عن تساوي الناس في الحج فإن عينيه تلمعان؛ فلا تستهن بذلك، فإن المساواة بين الناس بداعي الإنسانية مجرد خرافة غير قابلة للتحقق، وفي مجتمعاتهم يقارن المرء نفسه مع غيره دائماً -يقارن نفسه أو تقارن نفسها- مع الأغنى؛ أو الأجمل؛ أو الأشهر، وكثير منهم يمقت نفسه أو يسيطر عليه شعور الحسد ويصير مجمعاً للعقد (خصوصاً في الإناث)، بينما إن آمن بالقدر وعلم أن هذه الأمور ليست هي المراد من الحياة؛ فإن الأمر يهون في نفسه.
وكذلك إن حدثك عن أهمية الصلاة والانفصال عن الواقع؛ فلا تستهن (علماً أن صلاتنا ليست كذلك)، فإن من مطالب الإنسان الحديث المثخن بهاجس الإنجاز أنه يريد الاستراحة من تلك المعركة وينفصل عن الواقع قليلاً ويشكي همه.
قد يرى بعض الناس أن النظر للدين من هذه الزاوية أمر جيد وأنه يقرب الغربيين من الإسلام؛ ولكن الأمر أعمق مما نظن.
(التدين المصلحي) وهو النظر للدين من خلال (ما يقدم الدين لك) من مصالح في تحقيق أهدافك الدنيوية هو أخطر أنواع التدين؛ لأنه يجعل الغاية وسيلة والوسيلة غاية ويُنسي حق الله عز وجل، هو تدين يريد الغنم دون الغرم، لهذا إذا لم يشعر بفائدة مباشرة يقول لك (ما الفائدة من هذا الأمر؟) وسيطلب تحريف الدين وفقاً لأهوائه الخاصة ومصالحه الخاصة؛ لأنه يفكر بهذه الطريقة دون النظر لأهمية التسليم وأن رب العالمين أعلم وأحكم سبحانه بمصالح عباده العامة، ومن هذه النظرة الضيقة ظهرت النسوية المنتسبة للإسلام وكثير من المذاهب الدخيلة.
وها أنت ترى أمامك نصرانية استفادت مما تريد الاستفادة منه وبقيت على عقيدتها الفاسدة، وهذا طرح سيسود الأيام القادمة وهو التعايش بين الأديان على جهة استفادة بعضها من بعض كما تتبادل الدول البضائع، وبداية هذا الانحطاط يأتي من الدعوة لهذا الأمر داخل الدين الواحد بحجة التقريب بين المذاهب.
حتى بين المنتسبين للملة يوجد من طلب العلم الشرعي زمناً، فتعلم منه الصبر على القراءة أو الشغف المعرفي؛ والمقدرة على التعبير عن النفس؛ وترتيب الأفكار؛ والحديث ببلاغة، ثم أخذ هذه المهارات كلها وكرسها في معارف تجلب الربح ولا تنفِّر الجمهور وعلاقتها بالله واليوم الآخر ضعيفة.
وبعضهم حوَّل الدين إلى مرجعية معرفية فحسب وليس حقيقة مطلقة يدعى إليها الناس ويُعقد عليها الولاء والبراء، فيستدل للأفكار المستحسنة وفقاً لمعيار في رأسه -غالباً متأثر بالغرب- بالآيات والأحاديث، ولكن لا يوجد عنده استعداد لأن يدخل في السلم كافة.
فحدِّثه عن صلة الأرحام؛ وحقوق الزوجين؛ والصدقات؛ والإحسان للجار؛ والبر بأنواعه، وأطربه بقصص مستحسنة من التراث فيها العبرة والنقاهة.
ولكن لا تحدثه عن إنكار البدع والشدة في ذلك؛ وسد الذرائع؛ وترك التشبه بالكفار؛ والحكم على المخالف بما يستحقه.
ومن طلاب العلم من صار ينكر المنافع الدنيوية العظيمة للتشريعات معاكسةً لهؤلاء القوم وهذا غلط، غير أن كلها وسائل للوصول إلى الله، ومنهم من يلتزم أموراً إجماعية تخالف هذه النظرة أو نصوصاً ظاهرة، ولكنك تجده في الأمور التي يشعر فيها بفسحة خلاف يختار ما يريده أهل هذه النظرة أو على الأقل يسترضيهم دون أن يقتلع البلاء من أساسه.