لماذا ينشر عبد الله رشدي مثل هذا الكلام؟
هذا تبشير مبطن بمذهبه الأشعري ليقول للسلفيين إذا أخذتم بأحكام أحمد ابن حنبل فينا ( يعني المقالات التي نقولها ) فيلزمكم أن تطعنوا في البخاري ومسلم اللذين خالفا عقيدة أحمد ابن حنبل أيضاً. وهذه شبهة فشت في الناس جداً وساهم في إفشائها أناس منتسبون للسلفية، خدموا خدمات جليلة بغير قصد لخصومهم العقديين.
وهذه الشبهة المتهافتة التي تستبطن الطعن في أحد رجلين إما أحمد ابن حنبل باتهامه بالتشدد أو البخاري باتهامه بالضلال لا تفيدهم شيئاً، فكل من أحمد والبخاري مخالف لاعتقادهم في القرآن مضلل لهم مكفر.
قال ابن بطال في شرحه على صحيح البخاري: “غرض البخاري الفرق بين وصف كلام الله تعالى بأنه مخلوق وبين وصفه بأنه مُحدَث فأحال وصفه بالخلق وأجاز وصفه بالحدث اعتمادا على الآية وهذا قول بعض المعتزلة وأهل الظاهر”.
وكل الأشاعرة الذين شرحوا الصحيح انتقدوا عقيدة البخاري هنا ونسبوه إلى موافقة المعتزلة، والبخاري في خلق أفعال العباد أثبت الصوت لله تبارك وتعالى وأثبت لله كلاماً في الأرض. وهو وأحمد يتفقون على تكفير منكر العلو أصالة، وهذا مذهب متأخري الأشعرية قال البخاري في خلق أفعال العباد: “وقال محمد بن يوسف: من قال إن الله ليس على عرشه فهو كافر، ومن زعم إن الله لم يكلم موسى فهو كافر“.
فلو فرضنا أن هناك خلافاً حقيقياً بين الإمامين وسننحاز لأحدهما على الآخر فنحن إن وافقنا الرجلين سنضلل الأشعرية القائلين بإنكار العلو والموافقين للمعتزلة بخلق القرآن، فالذي لا يقولون بخلقه هو الكلام النفسي، وهذا لم يكن محل بحث في زمن السلف، ولم يعترف بوجوده المعتزلة حتى يقولوا بخلقه أو عدم خلقه. والعجيب أنه ضعف الرواية عن البخاري مع تمشية السبكي لها وقبله الذهبي، وعهدي بالأزاهرة التقليد.
والإمام مسلم بريء من اللفظ ففي الوقت الذي كان يتهم فيه البخاري كان هو يبرأ قال الذهبي في السير: “قال الحاكم: سمعت الأستاذ أبا الوليد يقول: قال لي أبي: أي شيء تجمع؟ قلت: أخرج على كتاب البخاري، فقال: عليك بكتاب مسلم فإنه أكثر بركة، فإن البخاري كان ينسب إلى اللفظ”.
وعلق الذهبي بأن مسلماً أيضاً نسب إلى اللفظ ثم ذكر أنه هو والبخاري بريئان، وذكر رواية هذه الرواية إن أعللنا رواية خلف بن محمد فينبغي أن نعل هذه أيضاً وهي قول الذهلي: من كان على مذهب محمد بن إسماعيل فلا يقربنا. فراويها محمد بن يعقوب الأخرم ما أدرك القصة فقد كان في الثامنة من عمره لما مات الذهلي وما كان مميزاً وقت الفتنة، ويدل على هذا أن الناس ما قاموا على مسلم ولا تكلم به من تكلم في البخاري لأجل الاعتقاد. وهذه الشبهة طعن في مصداقية البخاري بنفسه لأنه في كتابه خلق أفعال العباد صرح بأنه ما خالف أحمد.
وخلاصة مسألة اللفظ التي خاض فيها كثيرون بجهل أن الكرابيسي ومن معه كانوا قائلين بأن القرآن الذي في الأرض مخلوق من كل وجه، ولم يكن يقول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق في الأرض ولا في السماء ولهذا قال فيه أحمد ما قال ويدل على ذلك أمرين:
1- استدلالات أحمد وغيره من الأئمة على اللفظية بمثل قوله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} واستدلالهم بحديث «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس» وقد استدل البخاري بهذا الحديث أيضاً، ولو كانوا قائلين بأن القرآن كلام الله غير مخلوق وله حضور في الأرض وإنما يقولون فقط بخلق أفعال العباد لكان الخلاف بينهم لفظياً، ولما استدل الناس عليهم بمثل هذه النصوص مع إنكار هؤلاء الناس على من يقولون لفظي بالقرآن غير مخلوق، ويدل عليه أيضاً أن داود الأصبهاني وقد أخذ عن ابن كلاب كان هذا مذهبه أن هناك قرآنان واحد في الأرض والآخر في السماء أحدهما مخلوق والآخر ليس كذلك، وكان يعبر أحياناً بكلام اللفظية.
2- ما روى اللالكائي عن الرجل الذي دفن البخاري أنه سأله قبل وفاته: يا أبا عبد الله ما تقول في القرآن؟ فقال: القرآن كلام الله غير مخلوق. فقلت له: إن الناس يزعمون أنك تقول ليس في المصحف قرآن ولا في صدور الناس. فقال: أستغفر الله أن تشهد علي بما لم تسمعه مني، إني أقول كما قال الله: {والطور وكتاب مسطور} [الطور: 2]، أقول: في المصاحف قرآن، وفي صدور الرجال قرآن، فمن قال غير ذلك هذا يستتاب، فإن تاب وإلا سبيله سبيل الكفر.
فهذه هي المقالة المنتقدة والتي ظنوا أن البخاري يقول بها ويدل على ذلك ما روى قوام السنة في الحجة في بيان المحجة: “وحدثنا والدي، أنا أحمد بن محمد بن إبراهيم، نا أبو حاتم الرازي قال: من كلام جهم بن صفوان، وحسين الكرابيسي، وداود ابن علي أن لفظهم القرآن مخلوق، وأن القرآن المنزل على نبينا ﷺ مما جاء به جبريل الأمين حكاية القرآن فجهمهم أبو عبد الله أحمد بن محمد ابن حنبل، وتابعه على تجهيمهم علماء الأمصار طرا أجمعون، لا خلاف بين أهل الأثر في ذلك.
فهذا مذهبهم ولو فرضنا أن أحمد متشدد فهل علماء الأمصار كلهم متشددون؟ والأشعرية يرون قرب مذهب الكرابيسي إلى مذهبهم ومع ذلك انتقدوا مذهب البخاري في القرآن كما قدمت، علماً هم زادوا على الكرابيسي نفي الحرف والصوت، ولا يحفظ أن للكرابيسي تصريح بأن القرآن في الأرض غير مخلوق باعتبار كلام الله وإنما يقارنه فعل للعبد مخلوق والنقل عنه في ذلك وهم يقدم عليه المتواتر المشهور كما شرحه فيصل بن قزار الجاسم في كتابه الأشاعرة في ميزان أهل السنة.