لماذا لم يشكل الأمر عندهم شبهة؟
من الأمور المشاهدة في زماننا أن كل مظهر إيجابي في حياة الكفار من نظافة أو تنظيم يحتم به احتفاءً عجيباً، ويجعل في أدلة وبراهين سلامة المنظومة الفكرية الغربية، وأن المسلمين عليهم أن يراجعوا أنفسهم فيما يخالفون فيه هذه الثقافة.
وكأن المسلمين يقولون أنه لا خير في غيرهم البتة، وأن أعظم فضائلهم على غيرهم ليس التوحيد أو العقيدة المبرهنة، وإنما بعض الفضائل، وكأن هؤلاء الكفار لا يوجد عندهم أي رذيلة.
الصحابة الكرام حين أسلموا كانوا يرون المطعم بن عدي وهو رجل مشرك يجير النبي صلى الله عليه وسلم، ويرون أصحابهم يهاجرون إلى رجل نصراني وهو النجاشي (وقد أسلم لاحقاً)، وما حركهم البتة أن يروا رجلاً يجاهد معهم، ويظهر بسالة لا توجد عند عامتهم، ثم يخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان منافقاً!
ويحفظون مآثر آبائهم في الكرم والشجاعة والنجدة وغيرها، ويرون رهبان النصارى وما يقع منهم من التبتل.
والمسلمون على مر تاريخهم رأوا في الكفار فضائل كثيرة، ولكنهم رأوا الأمر الأكمل في الإسلام.
فلم يقارن المسلمون راهباً نصرانياً يدفع الجزية ولا يرى الناس منه إلا الخير بخارجي يسفك دماء الناس ظلماً، ليستدلوا على ذلك بعدم نفع الإيمان وتأثيره على السلوك.
كما يفعل العالمانيون اليوم حين يقارنون بين الممارسات السيئة بين المسلمين وأحسن ما عند الكفار، أو مسالمة الكفار لهم.
فقد كانوا عقلاء ولا يقولون بأن إيمان الخارجي لا ينفعه، فحق الله أعظم وأجل.
ويعلمون أن الكفر في نفسه يقتضي من الظلم والباطل في الدنيا أعظم من البدع، والإيمان يقتضي في نفسه من حفظ الحقوق أعظم مما يقتضي ذلك من الفطرة أو بقايا الأديان المحرفة.
وأن تخلف ذلك في بعض أهل الإيمان لا ينفي هذه الحقيقة، كما أنك إذا قرأت على علبة السجائر أن التدخين سبب رئيسي في السرطان فإنك لا يمكنك أن تورد على هذه الحقيقة وجود مدخن غير مسرطن ومسرطن غير مدخن، فإن هذا لا ينفي العلاقة السببية بين الدخان والسرطان لأنها علاقة أغلبية أو تأثيرية مفهومة.
وكذلك حين يؤمن المؤمن بالله واليوم الآخر ويستحضر ذلك، ويفهم دينه الحق فإنه يحقق من العدل ما لا يحققه غيره، غير أن العدل بمفهومهم يتمركز على مصالح الإنسان الحسية القريبة ولا يقيمون للإيمان قيمة، لهذا لا يفهمون كثيراً من التشريعات.
ومن ضمن العبث أنه يأتيك لظاهرة مركبة عند الغرب فيأخذ منها أحسن ما فيها ويمجهر عليه.
فعلى سبيل المثال الحياة الرأسمالية وعدم وجود تكافل اجتماعي أوجب على كثير من أفراد الغربيين حرصاً في المأكل والمشرب خشية الفقر، ويقع مع ذلك البخل عن الضيف والمحتاج.
فيأتيك شخص وينظر لأمر الاقتصاد في المأكل والمشرب فحسب ويقارنه بإنسان عربي مسلم فيه شيء من السرف، ومع أن إسرافه لا يأمره به إيمانه إلا أنه يكون عنده من الكرم والنجدة الشيء العظيم.
وكذلك قد يتسمح الإنسان الغربي في تكاليف الزواج، ولكن هذا التسمح ناشيء عن كون الأعراض لا قيمة لها والنساء لحم على وضم.
مع أن التشديد الذي عندنا في أمر لم يؤمر به في الشرع، غير أنني أود أن أقول أن الحالات السلبية التي عندنا هي ضمن ظواهر مركبة فيها جوانب إيجابية، وكذلك الحالات الغربية الإيجابية ضمن حالات مركبة فيها جوانب سلبية، والحكم للغلبة.
ثم إن في الإيمان الخير كله، والمؤمن لو تجرد من كل خير إلا مقتضيات الإيمان الصحيح فهو خير من كافر فيه خير عظيم، فنحن نعقل أن أسوأ الناس خلقاً من أهل الإسلام أفضل من أبي طالب عم الرسول وحامي الدعوة، وأفضل من رجل اجتمعت فيها فضائل عظيمة مثل ابن جدعان، فلماذا كفار عصرنا ممن يحاربون الفطرة يشكل علينا أمرهم؟
أحسب أن البلاء جاء من الاستهانة بأمر العقيدة، وتحويل الوسيلة إلى غاية، وجعل الدين أمراً غايته إصلاح دنيا الناس لا عقائدهم، فمن هنا دخل التشويش وتولدت الشبهات.