فأقول هذا مقال لا يصلح للعامة ، ولا للمبتدئين في الطلب ، ويعلم الله أن المرء مضطر على كتابة بعض الأمور لما تجرأ السفهاء وما كنت أحب في زمن فشا فيه التمييع مع الجهمية وأهل الرأي أن أكتب كلاماً كهذا
ليعلم أن الاتباع الصادق للسلف لا يجري على الأهواء فتأخذ منهم ما شددوا فيه وتترك ما تسامحوا فيه بل تأخذ الأمر كله وتسلم وتتبع ولا تجري خلف هواك وفي هذا المقال سأذكر أمثلة لسقطات وزلات وقعت من أكابر احتملت لقرائن اقترنت بالأمر وليعلم أن طريقة السلف في عامة الأمور العدل والإنصاف وأنه ربما خرج عندهم عن سمت القاعدة خارج لقرائن احتفت بهذه الحال
وأصحاب الهوى يستدلون بمثل هذه الأمثلة لإسقاط الأحكام الشرعية في التكفير والتبديع ، ويفضحهم الله بترك آثار للسلف هي اظهر وأكثر تعاضد فيما يخالف هواهم كآثار السلف في أهل الرأي وليستمع لمحاضرتي ( لا تعينوا على هدم الإسلام ) للرد على هذا الضرب من الناس
المثال الأول
أبو وائل شقيق بن سلمة هذا تابعي مخضرم كان يجالس إبراهيم التيمي المرجيء ، وله تعريض بمعاوية في تولية يزيد ولما تكلم في تفضيل عثمان على علي قال في علي ما لا يحسن فلم احتمل منه هذا ولا يذكر في كتب الجرح والتعديل إلا بخير أما مجالسته للتيمي فالتيمي كان مرجئاً ولكنه كان عابداً فإرجاؤه لشبهة وليس كإرجاء أهل الرأي ، والتيمي لم يكن داعية وكان معظماً لعلماء السلف وأبو وائل أكبر منه بكثير فليس له مطمع في مجالسته وللتيمي عبارات كثيرة رائقة وقد ذكر البخاري في صحيحه أن أمر المرجئة لما ظهر ذهبوا إلى أبي وائل فرد عليهم وحدث بحديث ( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ) وأما ما يذكر في حق علي ومعاوية فما كان يفسقهم ولا يكفرهم ولا يؤلب عليهم ، وسنه قريب من سن معاوية وعلي فكان يقع منه بعض الكلام كمعتبة الأخ على أخيه
وما ذكرته في أمر معتبة الأخ لأخيه قالته عائشة فيما ذكر لها من شأن عثمان فكانت تظن أن الناس الذين يأتونها إنما يعتبون معتبة كهذه وقال نظيره سعد بن أبي وقاص لما سعى بعضهم بالنميمة بينه وبين علي.
المثال الثاني
الحسن البصري الذي اجتمعفيه الزهد والفقه والوثاقة في الحديث مع حسن العبارة والانعزال عن الناس وعن كل ما يمت للدنيا بصلة كان للحسن كلام لا يحسن في حق أنس بسبب عمل تحديث أنس للحجاج بحديث العرنيين وقد أنكر أن يكون إبليس من الملائكة وشنع على من قال بذلك وقد ثبت هذا القول عن ابن عباس وابن مسعودوعامة التابعين وهذا احتمل للحسن مع فضائله وحاله مع عمران كحال أبي وائل مع معاوية وأنس أفقه منه ولا شك وأعلم بمصالح
الخلق وحديث العرنيين علمه الحجاج قبل أن يلقى أنساً وإنما طلبه بعلو وقد وقع من ابن سيرين كلام لا يحسن في حق سمرة بسبب ولاية سمرة عند ولاة لا يرتضيهم ابن سيرين ، ولا شك أن سمرة أعلم بمصالح الخلق وأفقه وقد شاركه صاحبه عمران بالولاية عند هؤلاء وكانوا قد أزالوا شراً عظيماً.
وهؤلاء لا يجوز تقليدهم على هذه الغلطة _ يعني الحسن وابن سيرين _
لما صح في السنة مما يخالف هذا الصنيع منهم وعامة السلف كانوا لا يذكرون هذه الأمور
عنهم وإنما كان يرويها أمثال ابن سعد في الطبقات.
تنبيه : كنت قد ذكرت أن الحسن تكلم في عمران لأمر الولاية والصواب أنه تكلم في أنس لأمر آخر ولكن لما كنت اعتقدت أفضلية ابن سيرين على الحسن حتى وجدت كلام ابن سيرين وعتبه على سمرة وكان داعي الكلام مشتركاً مع عمران
المثال الثالث
يحيى بن معين إمام الجرح والتعديل وله يد على الأمة في أمر الرواية حتى أنه لما مات حملوه على أعواد النبي صلى الله عليه وسلم تكريماً له ومع ذلك له دفاعات باردة عن أهل الرأي بل فضل فقه أبي حنيفة على فقه الشافعي كما في سؤالات ابن محرز وهذا عجيب جداً من صاحب
حديث قال ابن الجنيد في سؤالاته لابن معين حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: سمعت حماد بن سلمة يقول: أعض الله أبا حنيفة بكذا وكذا، لا يكني، فقال ابن معين: «أساء أساء» .
وقد روى عن أبي يوسف مخالفاً إجماع المحدثين _ في عصره _ على هجره وتركه حتى أنه لم يخرج له في الكتب الستة وأفتى ابن المبارك بإعادة الصلاة خلفه لكونه صاحب حيل خبيثة يحل بها الفروج المحرمة ( انظر ترجمته في الضعفاء للعقيلي )
فلم احتمل الناس هذا من ابن معين ؟
إنما احتلموه لأنه لم يكن صاحب رأي بل أفنى عمره في الحديث وكان يكذب الشيباني ويجهم أبا حنيفة كما عنه في تاريخ بغداد وضعف أبا حنيفة أيضاً مع تنزيهه له عن الكذب وابن معين معظم جداً لحماد بن سلمة حتى قال ( إذا رأيت الرجل يتكلم في حماد بن سلمة فاتهمه على الإسلام)
وهذا ابن المبارك حفظت له مدائح في أبي حنيفة رجع عنها وأناب ووقع فيه ولكن لا يشك أنه حين مدحه إنما اغتر ببعض الأمر ولم يكن ابن مهدي يعلم برجوع ابن المبارك عن روايته عن أبي حنيفة وكان يعتب عليه في ذلك ولكنه يعلم أن ابن المبارك معظم لخضوم أبي حنيفة بعيداً كل البعد عن الرأي والحيل والسيف والتجهم فاحتمله منه.
وليعلم أن ليس كل مدح لصاحب بدعة يسمى موازنات كما يظنه البعض فهناك مدح تقتضيه مصلحة شرعية راجحة كتوثيق الرواة ، وهناك مدح على جهة المقارنة مع غيره ، وهناك ثناء على بعض أحواله مع أمن الافتتان به كما تراه في بعض تراجم عمرو بن مرة والحسن بن صالح، ولكن يكون مدحاً مع بيان ما فيه لئلا يحصل التغرير ولهذا قال أحمد في أبي يوسف ( كان منصفاً
في الحديث ليس كصاحبيه ) وهذا مدح مع كون أحمد لا يروي عنه ولكن رفض أحمد أن يسوي
بينه وبين أبي حنيفة وكلاهما صاحب حيل ورأي ولكن أبو يوسف أمثل منه.
حتى قال أبو زرعة ( ما أبعده عن التجهم ) ، ومن نظر في كتاب الخراج لأبي يوسف يجد أنه كان يمنع من الحيلة لإسقاط الزكاة بخلاف صاحبه أبي حنيفة هذا مع قوله بالحيل في الجملة والمتأخرون لهوى عجيب فيهم ينقلون مثل هذه الكلمات في أبي يوسف مع اقترانها بكلمات في ذم أبي حنيفة فيأخذون ما يريدون ويتركون ما يريدون وأحمق منهم ذلك الذي تجرأ على أحمد في
روايته عن أبي معاوية وكل الناس رووا عن أبي معاوية فمن استدل بتركهم لأهل الرأي يلزمه الاستدلال بروايتهم عن أبي معاوية في التدليل على تسهيل أمره في الرواية والعكس بالعكس فيكون رداً على الجفاة والغلاة معاً.
وأحمد نفسه الذي روى عن أبي معاوية ترك الرواية عن شبابة وعلل بأنه داعية ، وابن تيمية الذي ربط الهجر التعزيري بالمصلحة هو نفسه نص على أن السلف لم يكونوا يروون عن صاحب بدعة داعية.
وربط الهجر بالمصلحة سليم على أن يبقى الأصل في التعامل مع أهل البدع الهجر وتكون خلطته لمصلحة شرعية راجحة أو ضرورة لمن أمن عليه الضرر في الغالب على الظن ، ألا ترى إلى الذين رووا عن بعض أهل البدع أيصح أن يقال أنهم هجروهم ولا يوجد إمام في السنة إلا وفي بعض شيوخه من تلبس ببدعة إلا أقل القليل ، مع العلم أنه يشترط ألا تكون بدعته مكفرة وألا يكون داعية وهناك أمور أخرى تبسط في آخر المقال إن شاء الله تعالى.
تنبيه : اتصل بي أحدهم واتهمني بالكذب لأنني نسبت لبعضهم الطعن في رواية أحمد عن أبي معاوية ، وكنت قد اعتمدت على نقولات الأخوة ثم رجعت إلى النقل بنفسي فوجدت الكلام في سياق التعقيب على أحمد في مسألة التفريق بين الداعية وغير الداعية وأن هذا التفريق غلط عظيم من أحمد وأن مما يتعقب به على أحمد أن التفريق بين الداعية وغير الداعية قد يخفى على أناس بما فيهم أحمد نفسه وذكر مثال أبي معاوية وإليك نص الكلام: “وقد أكثرَ أحمد من التفصيل حتى تواتر عنه التفصيل ! وهذا التفصيل مردود بالكتاب والسنة والإجماع كما بينتُ في مسألة مفردة وفي ثنايا كتبي. وانظر قول الله تعالى: أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [البقرة/221] .. فالمبتدع وإن لم يدع إلى بدعته بحرفٍ من الكلام فقد دعا إليه بحاله ! فمن رآه ورأى سَمْته وعبادته اغترَّ به واتبعه وإن لم يدعه مقاله فقد دعاه حاله !
قال جعفر بن محمد بن أبى عثمان الطيالسى عن يحيى بن معين: سمعت من عبد الرزاق كلامًا يومًا، فاستدللتُ به على ما ذُكِر عنه من المذهب، فقلت له: إن أستاذيك الذين أخذت عنهم ثقات، كلهم أصحاب سنة: معمر، و مالك بن أنس، و ابن جريج، و سفيان الثورى، و الأوزاعى، فعَمَّن أخذتَ هذا المذهب؟
فقال: قدم علينا جعفر بن سُليمان الضُّبَعي، فرأيتُه فاضلاً حسن الهدي، فأخذتُ هذا عنه.
وأيضًا الفارق بين الداعية وغير الداعية يخفى على الكثير فهذا أحمد قد أكثر عن شيخه أبي معاوية الضرير المرجئ قال أبو زُرْعة: كان يرى الإرجاء ويدعو إليه. وهذه نصيحةٌ لأهل السنة تعلّموا السنة جيدًا لا تشتبه عليكم! لا ترجئوا في السنة ولا تُنَفِّروا الناس عن السنة لا بحالٍ ولا مقال ! . انتهى كلام أبي عبد الله عفا الله عنه”
فهنا ينص على أن أحمد خفي عليه حال شيخه الداعية للإرجاء في خضم وصفه لتفريق أحمد بين الداعية وغير الداعية بأنه غلط مخالف للكتاب والسنة الإجماع فأحمد خالف الكتاب والسنة والإجماع وما استطاع أن يطبق أصوله لأنه أرجع البحث لأمر خفي وهذا كله ليس طعناً !
وجاء التمثيل بأبي معاوية الذي اتفق الناس على الرواية عنه
وقد سبق ذلك قوله ( وَهَذَا لَا شَكَّ أَنَّهُ خَطَأٌ عظيمٌ مِنْ أَحْمَدَ وَ مِنَ الخَلاَّلِ ومن تابعهما عليه ..
وَأَئِمَّةُ أَحْمَدَ وَأَئِمَّةُ أَئِمَّةِ أَحْمَدَ كَلاَمُهُم فِي الْمُبْتَدِعَةِ عَامَّةً وَالْمُرْجِئَةِ خَاصَّةً
لَيْسَ عَلَى ذَاكَ التَّفْصِيلِ)
فأحمد خالف الكتاب والسنة والإجماع وشيوخه وشيوخ شيوخه وكان من تطبيقات ذلك روايته عن أبي معاوية الذي ظنه غير داعية فبان داعية ! وهذا كله ليس طعناً !
فلو كان كلام الكاتب مع الإقرار بوجاهة كلام أحمد على أن أبا معاوية داعية لاحتمل ذلك ، ولكنه في سياق تغليط أحمد في التفريق بين الداعية وغير الداعية فهو بشكل واضح يرى أن أبا معاوية ما كان ينبغي أن يروى عنه لا على أصول الكاتب ولا على أصول أحمد الذي يفرق بين الداعية وغير الداعية فهذا تثريب بين ، والحق أن أبا معاوية اتفقوا على الرواية عنه وهذا يدل على أنه لم يكن داعية وأبو زرعة ما ادركه وما صحبه صحبة الأئمة الذين رووا عنه
ولو أردت أن أصف المبتدع بأبلغ مما وصف به هذا الكاتب الإمام أحمد لما وجدت فأقول في تعريف المبتدع ( رجل خالف الكتاب والسنة والإجماع وشيوخه وشيوخ شيوخه وفتح الباب لأهل البدع )!
وما ذكره عن شيوخ أحمد وشيخ شيوخه محض هراء بل هو من أشد الناس في هذا الباب
فهذا الأوزاعي يروي عن حسان بن عطية وهو قدري
وهذا مالك على تشدده وإهماله لاسم عكرمة روى عن ثور بن زيد الديلي وداود بن الحصين وكلاهما رمي ببدعة
وهذا سفيان روى عن عمرو بن مرة وحماد بن أبي سليمان ومثله شعبة
ويحيى القطان ويزيد بن هارون رووا عن مسعر
وعبد الرحمن بن مهدي روى عن هشام الدستوائي وقد رمي بقول القدرية
فأين مخالفة شيوخ أحمد وشيوخ شيوخه له التي ادعاها هذا الجريء ، وهل كل هؤلاء الأئمة خفي عليهم الكتاب والسنة والإجماع التي اطلع عليها هذا المغرور وحده !
وأما ما ذكر في سؤالات الآجري عن أبي داود من أن أبا معاوية رئيس المرجئة في الكوفة فهذا من غرائب كتاب الآجري وفيه غرائب عديدة منها إعلال حديث ( الخلافة بعدي ثلاثون عاماً ) بسفينة صحابيه ، وإذا كان هو الرئيس فما كان يصنع أبو حنيفة وأصحابه وأحمد أعلم به وقد قال العجلي وهو أعلم الناس بأهل الكوفة ( وكان لين القول فيه ) يعني في الإرجاء
المثال الرابع
يزيد بن هارون كان يتوقف في علي وعثمان أيهما أفضل ولكن احتمل هذا منه لما عرف عنه في الاتباع ولأن هذا أمر تلقاه عن عامة أهل بلده واسط
ولما ذكر المروذي في رسالته التي اطلع عليها أحمد وذكرها الخلال أئمة أهل السنة ذكر يزيد معهم ويزيد من جلالته كان المأمون يخشى إظهار القول بخلق القرآن هيبة له
المثال الخامس
عبد الرحمن بن مهدي إمام في السنة من كبار أئمة الجرح والتعديل وكان سيفاً مصلتاً على أهل الرأي ولم يكن له كلام في السلف بسوء ولم يكن يشرب النبيذ وقع له سقطة في مسألة الشهادة فكان يقول بأن الصحابة الذين بشروا بالجنة في الجنة ولا يشهد بذلك ! وتبعه على هذا ابن المدين ورد عليه أحمد حتى قال ( ومن عبد الرحمن بن مهدي ؟)
ومع ذلك بقي الناس يوقرونه ويعتبرونه إماماً في السنة ويعلمون أنه دخلت عليه شبهة في هذا الباب فلم يجز لمسلم متابعته في سقطته ومع ذلك قدره محفوظ
المثال السادس
سفيان بن عيينة هذا الإمام الجليل الذي تتلمذ عليه أحمد والشافعي وابن المديني وابن معين وغيرهم كثير واتفقوا على جلالته ومع ذلك قال أبو نعيم في الحلية (7/211) : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحِ بْنِ دُرَيْجٍ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ التَّمِيمِيُّ، ثنا ابْنُ عُيَيْنَةَ، قَالَ: ” لَمَّا مَاتَ مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ رَأَيْتُ كَأَنَّ الْمَصَابِيحَ، وَالسُّرُجَ قَدْ طُفِئَتْ , قَالَ سُفْيَانُ: وَهُوَ مَوْتُ الْعُلَمَاءِ “
مسعر هذا ترك سفيان الثوري الصلاة عليه وكذا الحسن بن صالح من أجل أنه دخلت عليه شبهة المرجئة في الاستثناء مع قوله أن الإيمان قول وعمل فاعتبروه مرجئاً
فلم يمدحه ابن عيينة هذا المدح مع علمه بإرجائه ؟
إنما احتمل هذا المدح من ابن عيينة لأن مسعراً ما كان داعية وكان فعلاً من العلماء فقهاً وحديثاً وزهداً فتأمل هذه الحال وما فيها من الرد على الغلاة والجفاة في آن واحد
فمع كون الناس لا يقرون ابن عيينة على هذا المديح العظيم إلا أنهم احتملوه منه لشبهة عرضت ، وابن عيينة ما كان مرجئاً
وقد رأيت بعضهم يضعف هذا الأثر بضعف تلميذ ابن عيينة وهذا سخف فالآثار لا تعامل هكذا وقد ورد عن ابن عيينة مدح لمسعر من طرق كثيرة
قال أبو نعيم في الحلية حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ، ثنا الْوَلِيدُ بْنُ أَبَانَ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ الصَّاغَانِيُّ، ثنا حُسَيْنٌ الْجُعْفِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُيَيْنَةَ، يَقُولُ: «رَأَيْتُ كَأَنَّ قَنَادِيلَ الْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ – يَعْنِي مَسْجِدَ الْكُوفَةِ – قَدْ طُفِئَتْ , فَمَاتَ مِسْعَرٌ رَحِمَهُ اللهُ»
وقال أيضاً حَدَّثَنَا أَبِي، وَأَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَيَّانَ، قَالَا: ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ، ثنا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَخْزُومِيُّ، ثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مِسْعَرٍ، قَالَ سُفْيَانُ: «وَكَانَ مِسْعَرٌ مِنْ مَعَادِنِ الصِّدْقِ» وقال أيضاً حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، ثنا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَاجِيَةَ، ثنا أَبُو مَعْمَرٍ الْقَطِيعِيُّ، قَالَ: قِيلَ لِسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: ” مَنْ أَفْضَلُ مَنْ رَأَيْتَ؟ قَالَ: مِسْعَرٌ , وَقِيلَ لِمِسْعَرٍ: مَنْ أَفْضَلُ مَنْ رَأَيْتَ؟ قَالَ: عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ “
وهذا إسناد صحيح ليضعفه السفيه، والعجيب أنه يدعي على ابن معين تضعيف الشافعي وهو لا يثبت ثم يكذب بهذا الثابت
المثال السابع
يحيى بن آدم قال يعقوب بن شيبة : ثقة كثير الحديث ، فقيه البدن و لم يكن له سن متقدم ، سمعت على ابن المدينى يقول : يرحم الله يحيى بن آدم أى علم كان عنده . و جعل يطريه ، و سمعت عبيد بن يعيش يقول : سمعت أبا أسامة يقول : ما رأيت يحيى بن آدم قط إلا ذكرت الشعبى ، يعنى أنه كان جامعا للعلم . و قال محمود بن غيلان : سمعت أبا أسامة يقول : كان عمر بن الخطاب فى زمانه رأس الناس ، و هو جامع ، و كان بعده ابن عباس فى زمانه ، و كان بعد ابن عباس فى زمانه الشعبى ، و كان بعد الشعبى فى زمانه سفيان الثورى ، و كان بعد الثورى فى زمانه يحيى بن آدم
هذا الرجل ملأ كتابه الخراج من الاستدلال بأقوال الحسن بن صالح بن حيي الذي كان يرى السيف وكان يتشيع
فلم احتمل هذا من يحيى بن آدم ؟
احتمل لأنه ليس على مذهبه والحسن بن صالح مثله يفتن به لما كان يظهر من الزهد العظيم والورع وسعة الفقه حتى فضله بعضهم على سفيان الثوري ويحيى بن آدم كان ينقل أقوال الثوري وهو المناويء للحسن بن صالح أيضاً
نعم كان زائدة يستتيب من يذهب للحسن بن صالح ، وغضب أحمد على الكرابيسي لما ذب عنه وسهل من سقطاته ويحيى لم يكن كذلك
ولكن لما إذا جاء رجل كيحيى بن آدم وانتقى من أقواله ما وافق الدليل أو ذكر فقهه مع التمييز يحتملون منه هذا لأنه إنما تفقه عليه وعلى الثوري والاحتمال شيء وجعل ذلك قدوة شيء آخر
وليعلم أن الحسن بن صالح مع كونه يرى السيف إلا أنه لم يكن يسهل جداً في أمر الخروج بل لا يرى الخروج إلا مع رجل اكتملت عدالته وما سوى ذلك لا يراه جائزاً
وأما موقفه من عثمان فالظاهر أنه لم يكن يظهر الطعن فيه بل يتوقف في أمره مع احتجاجه بفقه معاوية فضلاً عن عثمان
قال ابن حزم في الفصل :” وَهَذَا الَّذِي لَا يَلِيق بالْحسنِ بن حَيّ غَيره فَإِنَّهُ كَانَ أحد أَئِمَّة الدّين
وَهِشَام ابْن الحكم أعلم بِهِ مِمَّن نسب إِلَيْهِ غير ذَلِك لِأَن هشاماً كَانَ جَاره بِالْكُوفَةِ وَأعرف النَّاس بِهِ وأدركه وَشَاهده وَالْحسن بن حَيّ رَحمَه الله يحْتَج بِمُعَاوِيَة رَضِي الله عَنْهُم وبابن الزبير رَضِي الله عَنْهُمَا وَهَذَا مَشْهُور عَنهُ فِي كتبه ورواياته من رُوِيَ عَنهُ”
وابن حزم يطري الحسن لأنه كان على مذهبه في السيف ولكن ما ذكره من احتجاجه بفقه معاوية نفيس وقال الاسفرائيني في التبصير :” فَأَما الأبترية مِنْهُم فهم أَتبَاع الْحسن بن صَالح بن حَيّ وَكثير النواء الملقب بالأبتر وَقَول هَؤُلَاءِ كَقَوْل السليمانية غير أَنهم يتوقفون فِي عُثْمَان وَلَا يَقُولُونَ فِيهِ خيرا وَلَا شرا وَقد أخرج مُسلم بن الْحجَّاج حَدِيث الْحسن بن صَالح بن حَيّ فِي الْمسند الصَّحِيح لما أَنه لم يعرف مِنْهُ هَذِه الْخِصَال فأجراه على ظَاهر الْحَال”
المثال الثامن
وكيع بن الجراح والذي كان معروفاً بسعة العلم والفقه حتى أنه ليكفر من لا يكفر الجهمية ومع ذلك كان يذب عن شيخه الحسن بن صالح وهو على مذاهبه
ولماذا احتمل منه هذا ولا يخلو كتاب من كتب العقيدة والحديث والفقه من كلام وكيع في الزمن السالف ؟ السبب في ذلك أنه كان كوفياً وأهل الكوفة فيهم تشيع وهو منصف لم يكن داعية وكان يفضل الشيخين ويروي فضائل الصحابة ولا يروي المثالب مع ما عرف عنه من شدة التعبد والتثبت في الحديث هذا مع تعظيمه لأئمة السنة كالثوري
قال الخلال في السنة 542 – وقَرَأْتُ عَلَيْهِ: يَحْيَى، وَوَكِيعٌ، عَنْ مِسْعَرٍ، قَالَ وَكِيعٌ: عَنْ عَبْدِ
الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنِ النَّزَّالِ، قَالَ وَكِيعٌ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ لَمَّا اسْتُخْلِفَ عُثْمَانُ، قَالَ: «أَمَّرْنَا خَيْرَ مَنْ بَقِيَ وَلَمْ نَأْلُ»
ورواية وكيع لهذا الخبر يدل على أن رأيه حسن في عثمان فيما بعد أو كان خيراً من شيخه الحسن ولما قال الفزاري في وكيع أنه ( رافضي ) غضب يحيى بن معين وقال ( وكيع خير منك ) ذكر ذلك يعقوب في تاريخه
وأحمد عالم بما عند وكيع لذا لما ذكر ابن مهدي وفضله على وكيع ذكر سلامة ابن مهدي تجاه السلف
المثال التاسع
إبراهيم النخعي كان يتشيع فيفضل علياً على عثمان والسبب في ذلك واضح لأنه كوفي وشيخه علقمة من أصحاب علي ومع ذلك كان يطرد من يتكلم في عثمان من مجلسه واحتمال هذا منه ظاهر سببه
والصحابة قد اتفقوا على تقديم عثمان وما استقر عليه الأمر بعد معتمد على اتفاق الصحابة أصالة ودلالة النصوص
المثال العاشر
سليمان بن مهران الأعمش روى بعض الأخبار في مثالب عثمان وأخبار منكرة في فضل علي وكان يتشيع ومع ذلك كان عموداً من أعمدة الرواية وقد غضب أحمد على الكرابيسي لما تتبع الأعمش وحاول إسقاطه
وسبب احتمال العلماء للأعمش أنه كان يروي فضائل الصحابة بل حديث لا تسبوا أصحابي في الصحيحين من طريقه وروى في فضائل عثمان أيضاً وروي عنه الاعتذار مما بدر منه في شأن رواية المثالب والفتن
وما حصل من الطبري في رواية الفتن لا يجري على أصول أحمد والأئمة الكبار وكانوا يثربون على من يفعل ذلك
المثال الحادي عشر
البخاري صاحب الصحيح تكلم في التلاوة والمتلو بكلام لا يجري على أصول أحمد وتعقبه ابن تيمية وروى عن علي بن الجعد الواقفي الخبيث في صحيحه طلباً للعلو وقد كان ابن الجعد ميزاناً في حديث شعبة ، وقد استغنى عنه أحمد بل ونفر الناس عنه في أمور أخرى احتملت من هذا الرجل لجلالته المعلومة وفضله على كل مسلم وأما مقالة اللفظية فلا تصح عنه
وليعلم أن ابن القيم قد تابع البخاري على كلامه في التلاوة والمتلو وكان شيخه ابن تيمية أدق منه وقد أشار ابن القيم إلى وقوع الحسد من الذهلي للبخاري أما ابن تيمية فوصف الذهلي وأبا حاتم وأبا زرعة بأئمة الهدى في سياق ذكر خلافهم مع البخاري
وقد تأثر كثيرون ممن تأخر بكلام ابن القيم مع مخالفته الظاهرة لكلام شيخه ابن تيمية فابن القيم يقول ( التلاوة مخلوقة والمتلو غير مخلوق ) وأما ابن تيمية فحقق أصل أحمد في أنه لا يطلق في التلاوة أنها مخلوقة أو غير مخلوقة لوقوع الإيهام
المثال الثاني عشر
خلف المخرمي حافظ ثقة ثبت برأ جابراً الجعفي من القول بالرجعة كما في علل الميموني ومقالة الرجعة ثابتة على جابر ، وأذكر هذا لأبين أنه قد كان من العالم السني تحسين الظن ببعض أهل الأهواء في جانب معين
المثال الثالث عشر
مسلم صاحب الصحيح روى عن الحسن بن علي الحلواني الذي لم يكن يكفر الواقفة وقال سلمة بن شبيب في علمه يلقى في الحش ومعلوم أنه هناك فرقاً بين الرواية عن
واقفي ورواية عن شخص لا يكفر الواقفة جهلاً
المثال الرابع عشر
ابن أبي عاصم صاحب كتاب السنة وقد كان فيه ميل لداود قال ابن أبي عاصم في آخر السنة عند ذكر عقيدته :” وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، وَمَنْ قَالَ: مَخْلُوقٌ، مِمَّنْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ فَكَافِرٌ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَمَنْ قَالَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ”
وهذا كلام باطل في حق من لم تقم عليه الحجة وقد نقل أبو حاتم وأبو زرعة الاتفاق على تكفير الجهمي المخلوقي وأما في الواقفي ففرقا بين الجاهل فهو مبتدع وبين غير الجاهل فهو كافر
ثم يأتي بعد هذا أحمق يخربش في مدونته ويزعم أن ابن تيمية أول من جاء بالتفريق بين الإطلاق والتعيين وكأنه أحاط بكل كتب الدنيا علماً وهذا كلام ابن أبي عاصم يرد عليه
وفكرة التفريق بين الإطلاق والتعيين صحيحة في أصلها في المسائل الخفية ومسائل أخرى مترددة بين الظهور والخفاء ويدل على ذلك تفريق السلف بين الواقفة مع إطلاقهم تكفير الواقفة في أماكن أخرى والشبهة دخلت على ابن تيمية من موقف أحمد من المعتصم وهو محل إشكال وقد حللت هذا الإشكال في مقال مستقل ولا يجوز شرعاً أن يقال ابن أبي عاصم لا يكفر الجهمية ! فإنه كفر صنفاً منهم ووجود القيود والضوابط لا يعني إلغاء الحكم حتى ولو كانت القيود بعضها غالط ففرق بين من يقول ( الجهمية لا يكفرون ) أو ( الأشاعرة الجهمية لا يكفرون ) ومن يقول ( قولهم كفري ولكن لا يكفر إلا من قامت عليه الحجة )
والصواب التفريق بين المسائل الظاهرة والخفية ، بل يتعين الحكم على الجهمية منكري العلو ، وعباد القبور أنهم كفار بأعيانهم وهذه المسألة بسطت في غير هذا الموضع
المثال الخامس عشر
سفيان الثوري هذا الإمام الجليل الذي اجتمعت فيه الفضائل المختلفة من زهد وفقه وورع وقوة في السنة قضى قسماً كبيراً من عمره يفضل علياً على عثمان لشبهة عرضت وظل يرى أن شرب النبيذ من السنة لأنه رأى أن الرافضة يخالفون في ذلك حتى لقي مالكاً ولم يفارق مالكاً إلا على
العهد بألا يشرب النبيذ فلو مات سفيان قبل هذا ؟
المثال السادس عشر
الإمام الشافعي كان يتوسع في الرد على أهل الرأي حتى أن الإمام أحمد ما كان يعجبه هذا التوسع
جاء في طبقات الحنابلة :” وقال أَيْضًا قلت: لأبي عبد اللَّه أترى يكتب الرجل كتب الشافعي قَالَ: لا قلت: أترى أن يكتب الرسالة قَالَ: لا تسألني عَنْ شيء محدث قال: كتبتها قَالَ: معاذ اللَّه”
وروايته عن الأسلمي ومع هذا كان أحمد يدعو له في صلاته ويشكرون له جهده في إخزاء أهل الرأي وله مسائل خالف فيها آثار الصحابة لما جهله رحمه الله كمسألة المسح على الجوربين والوضوء من لحوم الإبل ، ولما كتب حفص الفرد كتاباً في الرد على البراهمة جاء للشافعي وأجاز الشافعي كتابه كما ذكر ذلك الآبري في مناقب الشافعي ، ولكن فسد الأمر بينهما بعد إظهار حفص القول بخلق القرآن
والسجزي مع جلالته خلط في بعض المسائل ، واللالكائي وقع منه زلل في الاسم والمسمى وابن بطة في تفاضل الآيات والسور والآجري في تفاضل الإسلام وروى أخباراً باطلة في الفضائل بل روى حديث توسل آدم بالنبي صلى الله عليه وسلم
وهؤلاء أئمة هدى وكتبهم من أعظم ما ألف في الإسلام ولا يستغني عنها مسلم ، ولكن لا يسلم أحد من زلل غير أن الفجرة يأتون لأمور تتابعوا عليها ويغلطونهم بها
المثال السابع عشر
قال الطبري في تفسيره 18582- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) ، فقرأ حتى بلغ: (عطاء غير مجذوذ) ، قال: وأخبرنا بالذي يشاء لأهل الجنة، فقال: (عطاء غير مجذوذ) ، ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار.
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هنا يتوقف في مصير أهل النار ولا يجزم بمساواة مصير أهل الجنة والنار ، ولعل متأول سيتأول النص في عصاة الموحدين ولكن السياق عام كل ما ذكرته آنفاً رداً على فئة أسرها العجب حتى صاروا يتذاكرون في تكفير ابن تيمية ويقول فاجر منهم ( لو كفر أحد أحمد ابن حنبل ما ثلم ذلك الإسلام )
ولا أدري منهج من هذا من السلف ؟ وسبب البلاء عند هؤلاء أنهم تعرفوا على
بعض المسائل التي غلط فيها عامة المتأخرين كأثر مجاهد والموقف من أهل الرأي وتكفير
الأشعرية والعذر بالجهل ( وهذا كثير منهم جيد في الباب ) والموقف من آثار السلف في
التفسير والفقه
فبدلاً من أن يحمدوا الله على النعمة ويتواضعوا وخصوصاً أن كثيراً من هذه الأبحاث ليست من كدهم ولا تعبهم وإنما من بحث أناس آخرين وبعضهم ربما زاد عليها ولكن أصل البحث أخذه من غيره ، أخذهم الكبر وصار شغلهم الشاغل متابعة المعاصرين والمتأخرين وعرضهم على هذه المسائل وعامتهم يغلط فيها ويخلط ثم ينتفخ ويسوي بين عامة المعاصرين
ثم يقع من بعضهم تعظيم محمد بن عبد الوهاب لما يرى من فضله على الأمة متناسياً أن الشيخ ثمرة من ثمرات جهاد ابن تيمية ، ويتأولون للشيخ تأويلات ابن تيمية بها أولى إذ لم يكن له دولة ولا جيش بل كان يدفع بعض القضاة عن قتله وقتل أصحابه بإلانة الخطاب معهم وقد صدر مرسوم في وقت ابن قلاوون ( من اعتقد اعتقاد ابن تيمية أهدر دمه ) وقال نصر المنبجي للجاشنكير بيبرس أن ابن تيمية يخشى منه على الدولة وأن يحصل منه كما حصل من ابن تومرت
وأعني بالتأويلات ما قاله بعضهم في الاعتذار لمحمد بن عبد الوهاب في موقفه من أهل الرأي بأنه كان يحمل أمراً أكبر من هذا وهو أمر التوحيد والشرك وأنه لم يرَ الوقت مناسباً لإيضاح المسألة
ومعلوم أن الإمام المجدد من أشجع الناس وقد أدان أبا حنيفة بالإرجاء ولكن مسألة أهل الرأي فيها خفاء كثير وتلبيس في الأزمنة المتأخرة قد زال شيء كثير منه هذه الأيام
ومعلوم موقف الإمام المجدد من أبي حنيفة مع كونه أدانه بالإرجاء
وابن تيمية أولى بهذا العذر وكانت دعوته أوسع من دعوة الإمام المجدد في مواضيعها وخصومه أقوى علمياً وسياسياً وأيضاً تأويل بعضهم للإمام المجدد في كلامه الذي لا يكفر فيه بعض من يستحق التكفير بأنه كان له مذهب غير محمود في المعاريض !!
فهذا أيضاً يمكن أن يعتذر به لذلك الرجل الذي سجن وضرب طلبته وأهدر دم من اتبعه !
وقد قال في رسائله الشخصية ص252 :” ووجدت المتأخرين أكثرهم قد غير وبدل، وسادتهم وأئمتهم وأعلمهم وأعبدهم وأزهدهم، مثل ابن القيم والحافظ الذهبي والحافظ العماد ابن كثير والحافظ ابن رجب “
وما أحسبهم إلا معترضين على ذكر الذهبي هنا وفعلاً ابن القيم أمثل من الذهبي بكثير وقد وقع للذهبي سقطات كثيرة بسطتها في مقالي عن مجازفات ابن جماعة غير أن ابن عبد الوهاب لا شك أنه ما اطلع على كل تآليفه
وقال عبد اللطيف آل الشيخ في منهاج التأسيس والتقديس مدافعاً عن جده:
“قال أبو الحسن الأشعري: جملة ما عليه أصحاب الحديث وأهل السنة: الإقرار بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما جاء من عند الله، وما رواه الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يردون من ذلك شيئاً. والله تعالى إله واحد فرد صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، وأنّ محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الله تعالى على عرشه كما قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] ، وأن له يدين بلا كيف كما قال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [صّ: من الآية75] ، وكما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: من الآية64] ، وأن له عينين بلا كيف، وأن له وجهاً جلّ ذكره كما قال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:27] ، وأن أسماء الله تعالى لا يقال إنها غير الله، كما قالت المعتزلة والخوارج، وأقروا أن لله علماً كما قال: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: من الآية166] ، وكما قال: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فاطر: من الآية11] ،
وأثبتوا السمع والبصر ولم ينفوا ذلك، كما نفته المعتزلة، وأثبتوا لله القوة، كما قال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: من الآية15] وقالوا: إنه لا يكون في الأرض من خير ولا شر إلا ما شاء الله، وأن الأشياء تكون بمشيئة الله تعالى، كما قال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الانسان: من الآية30] ، وكما قال المسلمون: “ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن” وقالوا: إن أحداً لا يستطيع أن يفعل شيئاً علم الله أنه لا يفعله، أو يكون أحد يقدر على أن يخرج عن علم الله، وأن يفعل شيئاً علم الله أنه لا يفعله، وأقروا: أنه لا خالق إلا الله، وأن أعمال العباد يخلقها الله، وأن العباد لا يقدرون أن يخلقوا شيئاً، وأن الله تعالى وفق المؤمنين لطاعته، وخذل الكافرين بمعصيته، ولطف للمؤمنين ونظر لهم وأصلحهم وهداهم، ولم يلطف بالكافرين ولا أصلحهم ولا هداهم، ولو أصلحهم لكانوا صالحين، ولو هداهم الكانوا مهتدين.
وأن الله تعالى يقدر أن يصلح الكافرين ويلطف بهم حتى يكونوا مؤمنين، ولكنه أراد أن يكونوا كافرين كما علم، وخذلهم وأضلهم وطبع على قلوبهم، وأن الخير والشر بقضاء الله وقدره، ويؤمنون بقضاء الله وقدره، خيره وشره، حلوه ومره، ويؤمنون أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله، كما قال ويلجئون أمرهم إلى الله، ويثبتون الحاجة إلى الله في كل وقت، والفقر إلى الله في كل حال، ويقولون: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، والكلام في الوقف واللفظ من قال باللفظ أو بالوقف فهو مبتدع عندهم، لا يقال اللفظ بالقرآن مخلوق ولا يقال غير مخلوق، ويقولون: إن الله تعالى يرى بالأبصار يوم القيامة، كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون، لأنهم عن الله محجبون، قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] ، وإنّ موسى سأل الله سبحانه الرؤية في الدنيا وأن الله تعالى تجلى للجبل فجعله دكّاً، فأعلمه بذلك أنه لا يراه في الدنيا، بل يراه في الآخرة،
ولم يكفروا أحداً من أهل القبلة بذنب يرتكبه كنحو الزنا والسرقة وما أشبه ذلك من الكبائر. وهم بما معهم من الإيمان مؤمنون وإن ارتكبوا الكبائر، والإيمان عندهم هو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالقدر خيره وشره وحلوه ومره، وإن ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، وأنّ ما أصابهم لم يكن ليخطئهم. والإسلام هو أن يشهد العبد أن لا إله إلا الله على ما جاء في الحديث، والإسلام عندهم غير الإيمان، ويقرون بأن الله مقلب القلوب، ويقرون بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأنها لأهل الكبائر من أمته، وبعذاب القبر، وإن الحوض حق، والمحاسبة من الله للعباد حق، والوقوف بين يدي الله حق، ويقرون بأن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ولا يقولون مخلوق ولا غير مخلوق، ويقولون أسماء الله هي الله، ولا يشهدون على أحد من أهل الكبائر بالنار، ولا يحكمون بالجنة لأحد من الموحدين، حتى يكون الله تعالى أنزلهم حيث شاء، ويقولون أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم، ويؤمنون بأن الله تعالى يخرج قوماً من الموحدين من النار على ما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وينكرون الجدل والمراء في الدين والخصومة في القدر، والمناظرة فيما يتناظر فيه أهل الجدل ويتنازعون فيه من دينهم بالتسليم للروايات الصحيحة، ولما جاءت به الآثار التي رواها الثقات عدلاً عن عدل حتى تنتهي ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم
ولا يقولون: كيف؟ ولِمَ؟ لأن ذلك بدعة، ويقولون: إن الله لم يأمر بالشر، بل نهى عنه، وأمر بالخير، ولم يرضَ بالشر وإن كان مريداً له، ويعرفون حق السلف الذين اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلّم ويأخذون بفضائلهم، ويمسكون عما شجر بينهم صغيرهم وكبيرهم، ويقدمون أبا بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علياً رضي الله عنهم، ويقرون أنهم الخلفاء الراشدون المهديون وأنهم أفضل الناس كلهم بعد النبي صلى الله عليه وسلّم ويصدقون بالأحاديث التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم “إن الله ينزل إلى السماء الدنيا فيقول: هل من مستغفر؟ ” كما جاء في الحديث عن النّبيّ صلى الله عليه وسلّم ويأخذون بالكتاب والسنة كما قال الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: من الآية59] ويرون اتباع من سلف من أئمة الدين وأن لا يبتدعوا في دينهم ما لم يأذن به الله، ويقرون أن الله تعالى يجيئ يوم القيامة كمال قال: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر:22] ، وإن الله تعالى يقرب من خلقه كيف يشاء، كما قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [قّ: من الآية16]
ويرون العيد والجمعة والجماعة خلف كل إمام بر وفاجر، ويثبتون المسح على الخفين سنة، ويرونه في الحضر والسفر، ويثبتون فرض الجهاد للمشركين منذ بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلّم إلى آخر عصابة تقاتل الدجال. وبعد ذلك يرون الدعاء لأئمة المسلمين بالصلاح وأن لا يخرج عليهم بالسيف، وأن لا يقاتلوا في الفتنة، ويصدقون بخروج الدجال، وإن عيسى ابن مريم يقتله، ويؤمنون بمنكر ونكير والمعراج والرؤيا في المنام، وإن الدعاء لموتى المسلمين والصدقة عنهم بعد موتهم تصل إليهم، ويصدقون بأن في الدنيا سحرة وأن الساحر كافر، كما قال الله تعالى، وإن السحر كائن موجود في الدنيا، ويرون الصلاة على كل من مات بأجله وكذلك من قتل قتل بأجله، وأن الأرزاق من قبل الله تعالى يرزقها عباده، حلالاً كانت أو حراماً وإن الشياطين يوسوس للإنسان ويشككه ويخبطه، وإن الصالحين قد يجوز أن يخصهم الله تعالى بآيات تظهر عليهم، وأن السنة لا تنسخ القرآن، وأن الأطفال أمرهم إلى الله، إن شاء عذبهم وإن شاء فعل بهم ما أراد، وأن الله عالم ما العباد عاملون وكتب أن ذلك يكون، وأن الأمور بيد الله تعالى،
ويرون الصبر على حكم الله والأخذ بما أمر الله به، والانتهاء عما نهى الله عنه، وإخلاص العمل لله والنصيحة للمسلمين، ويدينون بعبادة الله في العابدين والنصيحة لجماعة المسلمين، واجتناب الكبائر والزنا قول الزور، والمعصية والفخر والكبر والإزدراء على الناس والعجب، ويرون مجانبة كل داع إلى بدعة، والتشاغل بقراءة القرآن وكتابة الآثار، والنظر في الفقه، مع التواضع والاستكانة وحسن الخلق، وبذل المعروف وكف الأذى، وترك الغيبة والنميمة والسعاية، وتفقد المأكل والمشرب.
فهذه جملة ما يأمرون به ويعتقدونه ويرونه، وبكل ما ذكرنا من قولهم ونقول وإليه نذهب، وما توفيقنا إلا بالله، وهو حسبنا ونعم الوكيل”
ذكر عبد اللطيف هذه العقيدة ليقول أن جده كان يعتقد ما بها ولم يتفطن لكون الأشعري قرر بأن الاسم هو المسمى وقرر مذهب
الجبرية في مقارنة القدرة للفعل وهذه مسائل فيها شيء من الخفاء وقد دسها الأشعري
ضمن معتقد سني في الجملة فلا يتنبه لها إلا قليل وعذره في هذا ظاهر عند كل عاقل
وهذا الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب قد أطرى الصنعاني في رسالته التوضيح عن توحيد الخلاق وعذره في ذلك ظاهر وهو قصيدة الصنعاني في مدح الإمام وبعض كتبه الجيدة كتطهير الجنان وما أظنه اطلع على رسائله التي يقع فيها في الصحابة وينصر مذاهب القدرية وبعض مذاهب الجهمية وسليمان بن سحمان نفسه له ( تبرئة الإمامين )!
والشيخ حمد بن عتيق رسالته إلى صديق حسن خان والذي تكلم فيها عن تجهم ابن حجر والنووي وأن التأويلات الذين في شرحيهما هي عين تأويلات المريسي ( مستعيراً عبارة ابن تيمية في الحموية ) أظهر في مقدمتها من التوقير لصديق حسن ما لا يستحقه والظاهر كان يتأول في ذلك التألف، وقد انتفع صديق حسن خان بهذه الرسالة وترك التجهم في الصفات وموقف ابن تيمية من أهل الرأي أمثل بكثير من موقف أئمة الدعوة
ذكرت هذا ليعلم أن هؤلاء الأجلة الذين ما من موحد إلا ولهم منة في عنقه ولا شك أن لهم نصيباً مما أمر الله عباده المؤمنين أن يقولوا ( ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان )
ولهم حظ من الخبر المروي بسند مرسل ( يحمل هذا الأمر من كل خلف عدوله )
ومن نظر في حال نجد والحجاز وما جاورهما بل وحال العالم الإسلامي ككل قبل الدعوة وبعدها عرف فضلهم فألوف مؤلفة كانت تعكف على الأوثان وكثير منهم ينكر البعث وكثير منهم ينكر توريث النساء وكثير منهم لا يعرف شيئاً من العلم غير من تلبس ببدع صوفية وكلامية فأخرجهم الله من الظلمات إلى النور وجعلها هؤلاء الأعلام علماً على التوحيد
ومع ذلك وقع لهم ما يقع لأي شخص من أهل السنة من الزلل المحتمل لقصور في المعلومات أو ضعف في التصور
وليعلم أن محاولة الفصل بين هؤلاء وابن تيمية محاولة فاشلة وتحليل من يحلل ويقول ( فلان جيد لأنه كان كثير النقل عن كتب أئمة الدعوة ويبدو أنه لم يكن ينظر في كتب ابن تيمية ) كلام فارغ
وهؤلاء السفهاء لا يغرك كذبهم ودعواهم سعة الاطلاع فالسطو على أبحاث الخلق سمة في أكثرهم والإنصاف يقال في أحيان عديدة ليست بالقليلة أنهم يشيرون إلى ذلك
ولو أنهم أنفقوا في النظر في كلام السلف والنظر في كلام ابن تيمية وابن القيم على جهة الإنصاف وكذا كلام أئمة الدعوة ما ينفقونه في تتبع كلام المعاصرين لغرض الإزراء عليهم بحق أو بغيره لما وصلوا إلى ما وصلوا إليه
وعامتهم إنما رصيده من النقولات عن بعض الأعلام في الغالب ما يقرأه في كتب الحركيين فيقوده الحركيون كما تقاد البهيمة ، والحركيون وإن كان لهم جهد في الرد على كثير من الفرق إلا أنهم في الكذب والاجتزاء يضاهون اليهود فمن يقرأ لهم يظن أن السلف كلهم مميعة
وبعد مرحلة البهائمية ينتقل إلى مرحلة السعار ، ويعمد إلى كبار أعلام الموحدين في الأعصار المتأخرة ويسلقهم بألسنة حداد
ويحاول أن يجد أي شيء حتى قال بعض فجرتهم مستدلاً على ابن تيمية أنه كان يكني الرازي ! ولهذا ابن تيمية لا يكفر الرازي !
وأكثر السلف كنوا أبا حنيفة وأبا يوسف ، وفي تكنية النصراني بحث وخلاف وابن تيمية وصف الرازي بالكذب ووصفه بالردة ووصفه بالجاحد في مواطن مختلفة من كتبه
ومع ذلك لا يرضي هؤلاء في سعارهم إلا حال معينة والله وبالله وتالله لو كان للأشاعرة نصف ما كان لهم من الدولة قديماً وكان تحت سلطتهم لما قام مقام ابن تيمية
وقد ادعى كبيرهم أن ابن تيمية قرر في اقتضاء الصراط المستقيم أنه لا ينبغي أن تتكلم فرق المسلمين في بعضها البعض لئلا يتشبهوا باليهود والنصارى !
ويا ليت شعري ماذا كان يعمل ابن تيمية
طوال حياته ؟
وعلى من كان يرد ؟
وما مواضيع عامة كتبه ؟
وادعى آخر منهم أن ابن تيمية لم يكن يعادي الأشاعرة
فالذي وصف بدعتهم بأنها بدعة الجهمية وقرر أن السلف تكلموا في تكفير الجهمية أكثر مما تكلموا في تكفير غيرهم وقرر بأنهم مخانيث المعتزلة وفضل المعتزلة عليهم في باب الإيمان والقدر وقرر كلام السلف في ذم الكلام وأهله واشترط لكي يكون المرء سنياً أن يترك الانتساب للأشعري في شروط أخرى مع كل هذا لم يعاديهم !
لا يعاديهم حتى يصير يقول ( حمير الأشعرية) و( بغال الأشعرية ) و ( الأشعرية حمير أهل القبلة ) و ( نهيق الأشعري ) و ( رقاعة الأشعري ) !
وعلى الرغم من أن الشيخ كان يسميهم ( الجهمية الإناث ) وقال ( مخانيث المعتزلة ) إلا أن هذا لا يغني ولا يجدي عند هذا الشخص
وآخر ينتقد على ابن تيمية أن في كلامه ما يستدل به أهل الأهواء في بعض المواطن ، وهذه ليست خصوصية لابن تيمية ففي البتر والاجتزاء يستدل حتى بنصوص من القرآن والسنة وكلام أئمة الهدى على الأهواء
ثم هم لا يكتبون مقالاً إلا ويستدلون بكلام لابن تيمية ، فينبغي أن يعد هذا منقبة !
وأما أهل التمميع والتضييع من أهل عصرنا فهم لأولئك كالمرجئة للخوارج في العصور الأولى ، وهم في أمر مختلف يؤفك عنه من أفك
فتراهم ربما استدلوا بنحو مما ذكرت في أول المقال ثم يتناسون أن أولئك الذين يحتج بهم لا تختلف كلمتهم في ذم أهل الرأي وكل
من ينقلون عنه ثناء على أحدهم ثبت عنه ذم أيضاً ، وهجران أهل الحديث لأهل الرأي
كأبي حنيفة وأبي يوسف والشيباني في كتب الحديث المشهورة يدل على أن الذم هو الثابت
وأهل الرأي اجتمع فيهم الإرجاء مع الحيل ،
وأبو حنيفة يتوسع في السيف وأبو يوسف يتوسع في التملق للسلطان مع إسقاطهم لكثير من
الحدود بأقاويل عجيبة ، مع ثبوت الكذب على عدد من أعيانهم
فهؤلاء ليس من الإنصاف أبداً أن يذكروا مع المرجئة الذين كانوا عباداً ومن الغلط أن يسمى جميع المرجئة ( مرجئة أهل الرأي ) لأن الرأي أمر زائد على الإرجاء
قال أبو زرعة الدمشقي في تاريخه وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ شَبُّوَيْهِ قال: حَدَّثَنَا عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: قِيلَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ: مَنِ الْجَمَاعَةِ؟ قَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَالْحُسَيْنِ بْنُ وَاقِدٍ، وأبو حمزة السكري.
قال أبو زرعة: قَالَ لَنَا أَحْمَدُ بْنُ شَبُّوَيْهِ: لَيْسَ فِيهِمْ شَيْءٌ مِنَ الإِرْجَاءِ، ولا رأي أبي حنيفة.
فذكر رأي أبي حنيفة على أنه بدعة مستقلة والعجيب أن السكري قد نالته الأقلام المتعجلة بمس من التبديع
فلهذا لم يحتملهم السلف أبداً _ أعني أهل الرأي _ ، ولا يوجد راو في الكتب الستة كان يسب عائشة أو يقذفها أو يتجهم بالقول بخلق القرآن صراحة ، أو إنكار العلو ولا أعرف أحداً من رواة الكتب الستة كان جبرياً والسبب في ذلك والله أعلم أن الجبرية ملة منحلة ، وقد هجروا عامة القدرية الذين ينكرون العلم ، وأما الخوارج فعامة من احتمل منهم الإباضية الذين يعاملون مخالفيهم معاملة أهل الإسلام مع اعتقادهم أنهم كفار في الآخرة ، بخلاف الأزارقة فلم يخرج في الكتب الستة عن أزرقي إلا رجلاً واحداً وهو جري بن كليب ، وأما النجدات فلا أعرف أحداً منهم خرج عنه وهؤلاء يتوسعون في دماء مخالفيهم ودفع السنن ، وكذلك المعتزلة الأقحاح لم يخرج
لهم
وأما القدرية الذين جاءهم القول بالقدر من باب تعظيم الأمر والنهي ومعاكسة الجبرية لا من شبهات كلامية ولا إنكار للعلم فهؤلاء احتمل غير الدعاة منهم خصوصاً في البصرة لأن عموم أهلها كذلك إلا نزراً يسيراً كأيوب وسليمان التيمي
قال عبد الله بن أحمد في العلل 2595 – سَمِعت مُحَمَّد بْن يحيى بْن سَعِيد الْقطَّان قَالَ لما ولي مُعَاذ بْن مُعَاذ قَضَاء الْبَصْرَة أَبى أَن يُجِيز شَهَادَة الْقَدَرِيَّة قَالَ فَكَلمهُ أَبِي وخَالِد بْن الْحَارِث وَقَالا لَهُ قد عرفت أَهْل هَذَا الْمصر قَالَ فَكَأَنَّهُ تساهل بعد
ومن عجيب أمر المتأخرين إنكارهم تكفير الأشعرية مع وقوع عامة الأشاعرة في بدعة مكفرة في العلو وفي الكلام وفي الصفات الفعلية وفي الإيمان وفي الحكمة والتعليل وهذا كله نبه عليه ابن تيمية !
والأزارقة والرافضة الأوائل والمجسمة والنجدات وأهل الرأي والمعتزلة الأوائل كلهم خير من الأشعرية بل من عجيب أمر معاصرينا أنهم يأتون إلى بعض من هم من أخس الأشعرية كالنووي وابن حجر ويجعلونه محنة
فابن حجر كان ينكر العلو ويشنع على المثبتين حتى إن له مواطن في الفتح يميل فيها إلى تكفير منكر العلو مع تردده بين التأويل والتفويض في بقية الصفات وموافقته لبدع الأشاعرة في الإيمان والقدر والنبوات وقوله بشد الرحال إلى القبور والتوسل بل روى البردة مقراً ما فيها وهو نفسه له استغاثات بالنبي في ديوانه الشعري مع نقله تكفير من كفر ابن تيمية في أمر الاستغاثة ساكتاً مقراً مع أنه قرظ للرد الوافر ، وهذا مع قوله بالبدعة الحسنة واجتهاده في الانتصار للمولد وهذا مع افترائه الكذب على ابن تيمية في الدرر الكامنة
فالأشاعرة منهم من يثبت العلو وهم عامة متقدميهم وإن لم يكن إثباتاً سلفياً خالصاً إلا أنه خير من التعطيل وهؤلاء كالأشعري والباقلاني وأما ابن حجر والنووي فيعطلان
ومن الأشاعرة من يثبت الحكمة والتعليل أو يخالف الأشعري في القدر كالجويني وابن العربي والقرطبي في ردوده على النصارى والغزالي في بعض كتبه كالأسنى وأما ابن حجر والنووي فموافقان للأشعري في هذا
ومن الأشاعرة من يحارب البدعة الحسنة كالطرطوشي والشاطبي وأما ابن حجر والنووي فيقولان بها ويجتهدان في ذلك، حتى يستدل ابن حجر للمولد باستدلالات يعترف بأنه لم يسبق إليها
ومن الأشاعرة من يحرم التوسل بالأولياء أو الأنبياء فضلاً عن الاستغاثة كالعز بن عبد السلام وأما ابن حجر والنووي فيقولان بالتوسل والنووي يقول باستقبال القبر النبوي عند الدعاء وقد عد ابن تيمية هذا شركاً وأما ابن حجر فصاحب استغاثة صريحة
ومن الأشاعرة من هو على طريقة النقاد في الجملة في الحديث كالبيهقي وأما النووي فيصف قواعد الأئمة النقاد بأنها قواعد ضعيفة ! وأما ابن حجر فحاله في هذا مضطرب ويكفيك تحسينه لحديث أنا مدينة العلم وعلي بابها في بعض أجوبته وتقويته لحديث ( سدوا جميع الأبواب إلا باب علي ) وكلامه المضطرب في صلاة التسبيح وقد اعترف جماعة من المعاصرين أن عامة تحسيناته في شرحه على البخاري التساهل عليها ظاهر وقد كثر نقد مصنفاته الحديثية في هذا العصر
والكلام في هذا يطول علماً بأن لابن حجر اعترافات في مخالفة الأشاعرة للسلف في الحرف والصوت استغلها كل من مرعي الكرمي في أقاويل الثقات والسفاريني في لوامع الأنوار البهية والبعلي في العين والأثر وهؤلاء كلهم لم يحققوا السنة وإنما تحسنوا بسبب النظر في كتب ابن تيمية
وأمرهم كأمر ابن الوزير الذي كان زيدياً معتزلياً وأورثه النظر في كتب ابن تيمية وابن القيم تعظيماً للسنة بالجملة حتى صنف كتابه العواصم في تسعة مجلدات كلها في ردود طعون الزيدية في السنة ودافع عن الصحابة كثيراً في هذا الكتاب ووقعت له سقطات خصوصاً في مسائل القدر ومسائل الخروج، ومع ذلك برأ أهل الحديث بدفاعات طويلة من تهمة النصب والجبر والإرجاء والتجسيم واستعان بابن تيمية كثيراً في ذلك مع ما له من اطلاع على تآليف الزيدية فيذكر ما يلزمهم به ، وابن الوزير هذا الذي حاول الصنعاني والشوكاني محاكاته
وحتى الشاطبي كان له تأثر ببعض ما كتب ابن تيمية ولكنه إذا نقل عنه يقول ( قال بعض الحنابلة) ويبدو أن ذلك خوفاً وتقية والشاطبي أشعري صرف
وأمثل هؤلاء جميعاً على عرج فيه ابن أبي العز شارح الطحاوية الذي كان حنفياً ومع ذلك ظاهر أنه أبغض الكلام وأحسن الرد على الفرق الكلامية في شرحه على الطحاوية ملخصاً لكلام ابن تيمية وابن القيم وبعضه مردود وبعضه لم يحسن فهمه
وله كتاب اسمه الاتباع رد فيه على حنفي كتب كتاباً في تفضيل أبي حنيفة على البقية وابن أبي العز في هذا الكتاب مع إظهاره التوقير لأبي حنيفة إلا أنه أزرى عليه كثيراً فيه وهذه شجاعة تحمد له في مثل ذلك الوقت ( أعني في الإزراء وهو أصلاً حنفي ) ، هذا مع ما وقع منه في الجهر بتحريم
التوسل حتى امتحن بذلك
وحتى الذهبي على ما عنده من تخليط في مسائل كثيرة إلا أنه كان في كتابه السير لا يترك ترجمة رجل له كلام في إثبات الصفات إلا ذكره مع ما يقع منه من الخلط بين كلام المفوضة وكلام المثبتة وأيضاً كلام المثبتة على طريقة الكلابية والمثبتة على الطريقة السلفية
ومن أفجر العبارات التي وقفت عليها قول أحد الفجرة في صفحته على الفيس بوك ( المقصود أن الذهبي كالنووي بل النووي أفضل ) والذهبي على ما عنده خير من النووي بل كيف يفضل منكر العلو على مثبت العلو والمصنف في ذلك هذه زندقة صرفة
بل وفضل ابن حجر على الألباني والألباني على ما عنده خير من ابن حجر بكثير وقال بعضهم في حوار مع أحد الأخوة أن أبا حنيفة ( مع اعترافه بكلام السلف فيه وإقراره بما قيل فيه ) خير من ابن تيمية
وهذا يدلك أنه لا تحقيق وإنما المقصود النكاية والتبكيت بأقوام معينين
وهذا نعمان بن محمود الآلوسي صاحب الآيات البينات وهو رجل حنفي سليل صوفية معظمين لابن عربي تحسن أمره كثيراً بعد نظره في كتب ابن تيمية وكتب ( جلاء العينين ) وبقيت عنده بقايا
وحتى السيوطي حين ألف كتاباً في الاتباع وذكر بدع القبور صار يغرف من بحر ابن القيم وأنكر الكثير من البدع الشائعة عند القبور حتى أنكر دعاء الله عند قبر الميت فصار في هذه المسألة أمثل من الذهبي وابن رجب غير أن السيوطي خرافي محض
وهذا محمد رشيد رضا على ضلاله العريض يعترف بفضل ابن تيمية على أهل التوحيد بسياق فيه ما فيه فقال في تعليقه على صيانة الإنسان ص470 :” الحق الواقع أن ما دعا إليه الشيخ من التوحيد هو ما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه وأصحابه وجميع المسلمين في خير القرون، ثم نجمت قرون الشرك وسمي بغير اسمه، فلما فشا في العوام كان شيخ الإسلام ابن تيميه أول من قاومه وأطال الحجج في دحض شبهاته وتفنيد خرافاته، ولم يخالفه في هذا أحد من علماء عصره، بل قال بعضهم: إنه نبهنا لأمر كنا غافلين عنه، اللهم إلا ابن البكري ألف رسالة في الرد عليه وعرضها على علماء الأزهر وغيرهم ليجيزوها فلم يوافقه عليها أحد، وكان من فروعها بدع الزيارة وشد الرحال خالفه فيها تقي الدين السبكي، ولكنه لم يبح دعاء غير الله تعالى لا النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره، وإنما كثر المضلون في هذه المسألة بعد ظهور الشيخ محمد بن عبد الوهاب لأن الجهل بالتوحيد صار أعم، ولأن الله تعالى سخر له آل سعود، فأسسوا للإسلام دولة عربية أفزعت الدولة التركية فقاتلت الدولة العربية وجعلت دعوى الدين حجة لها. وكتبه محمد رشيد رضا”
وكل رجل درس حال الأمة قبل ظهور ابن تيمية وبعده يعلم فضل ابن تيمية على الأمة
وقد ذكر النبهاني القبوري في كتابه شواهد الحق أنه يعتقد أن ابن تيمية وتلامذته أنهم من أئمة الدين وأكابر علماء المسلمين، وقد نفعوا الأمة المحمدية بعلمهم نفعاً عظيماً، وإن أساؤوا غاية الإساءة في بدعة منع الزيارة والاستغاثة وأضرّوا بها الإسلام والمسلمين، وهذا الذي استوجب رده عليهم حسماً لمادة الفساد. إلى آخر ما هذي به
أفيعرف الجهمي القبوري والمعتزلي فضل ابن تيمية ولا تعرفه أنت أيها الموحد
وقال محمود شكري الآلوسي الذي كان صوفياً وأسلم في غاية الأماني متكلماً عن كتب ابن تيمية :” وكتب المتأخرين من الحنابلة وغيرهم مشحونة بالنقل عن كتبه، والمنقولات عنها زينة للكتب وغرة محاسنها، وقد أودع الله تعالى فيها خاصية التأثير في القلوب فلا تجد أحداً يطالع فيها إلا وفتح الله عليه أبواب العلوم، وأفاض عليه من زلال عذب منطوقها والمفهوم، إلا من قسى قلبه وكشف حجابه، كما قال تعالى عن كتابه: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} “
وهذا محمد خليل هراس ومحمد حامد الفقي وعبد الرحمن الوكيل كانوا جهمية قبورية وتركوا هذا بعد نظرهم في كتب ابن تيمية وابن القيم وبقيت عندهم أمور خالفوا فيها ابن تيمية نفسه كإنكار هراس للقياس وطعن الوكيل بكعب الأحبار هو ومحمد حامد وإنكارهم لتشكل الجني بشكل الإنسي
وقد وقع لي أنني كنت أنكر الاستقرار والجلوس وأثر مجاهد وأن الله خلق آدم على صورته وكنت لا أكفر تارك أعمال الجوارح بسبب نظري في كتب الألباني ، وكانت عندي شبهات على كتب السلف فمنها ما تدفعه نفسي ولا أجد جواباً ومنها ما تقبلته واعتقدته
وكان النظر في بيان تلبيس الجهمية أولى خطوات ذهاب هذا الأمر ، وأيضاً حين قرأت من كتب ابن تيمية الشيء الكثير مع نظري في كتب السلف بعد أن زالت الاعتراضات كدعوى أنهم يحتجون بأخبار ضعيفة وإسرائيليات ومنامات وما كنت أفهم مسألة التلقي بالقبول حتى قرأتها في كتب الشيخين
ولا أنكر أبداً وقوعهم في أغلاط وزلات ، ولكن حين يأتي شخص في زمن متأخر وينشأ بين حنابلة قادرية يميلون للتفويض وعندهم قبورية وعدد من شبهات المرجئة في زمن عمت فيه الأشعرية وطمت وصارت تدرس في المدارسوإذا كان مثل ابن عساكر والبيهقي والخطيب البغدادي وابن الجوزي على اتساعهم في العلم وقعوا في شبهات أشعرية بل بعضهم أشعري خالص ولكن على طريقة متقدميهم فما عسى أن يقال في رجل تأخر عنهم
فحمل على عاتقه حرب البدع الكلامية في الصفات والقدر والإيمان والنبوات وحارب ابن عربي ومعظميه وحارب بدع الصوفية ومتعصبة المذاهب ودعا إلى توحيد الألوهية الذي غلط في عدد من أبوابه غالب المتأخرين وتوسع في ذلك وأفرد التصانيف وجاء على الشبهات واحدة تلو الأخرى ودعا إلى طريقة السلف وحمل ذلك وحده مع قلة الناصر ورد على النصارى واليهود والفلاسفة
والرافضة واجتهد في ذلك اجتهاداً بيناً وعصره ليس كعصر السلف بل عصر اكتظ بالبدع اكتظاظاً مخيفاً وإنا لله وإنا إليه راجعون
وما ذكرته عن انتشار بدع المرجئة يكفيك مثالاً عليه كلام أبي يعلى في ساب الله والذي رد عليه ابن تيمية في الصارم المسلول ونسبه إلى موافقة مرجئة الجهمية ، ثم إن أبا يعلى في الأحكام السلطانية قد قال بإسلام الطائفة الممتنعة وتبعه ابن قدامة وقد رد ابن تيمية على هذا القول ، وقال ابن قدامة بأسلمة تارك الصلاة الذي يقتل على تركها فرد عليه ابن تيمية ووصفه هو وأمثاله من الفقهاء بأنهم دخلت عليهم شبهة المرجئة ، هذا مع رد ابن تيمية على الذين لم يكفروا تارك الصلاة ووصفه لاستدلالاتهم بأنها تشبه استدلالات المرجئة، وظاهر كلامه تكفير من قاتل مع التتر وإن كان يشهد الشهادتين وقياسه على الطائفة الممتنعة بل وتكفيره للتتر مه تلفظهم بالشهادتين لوقوعهم في نواقض وتكفير من لم يكفر الرافضة الغالية والنصيرية ، ومع تنصيصه أن العذر لا يكون عذراً إلا مع العجز عن إزالته يختزل في نصوص مقتطعة ليظهر أنه سلف المرجئة في عصرنا
فالله المستعان كتبت ما سبق انطلاقاً من مسئولية أحملها أمام الله عز وجل تجاه بعض الأمور التي ظهرت في الساحة هذه الأيام والله المستعان
ولعل بعض الناس يدركون ما أعني
وقد أرعبني ذلك الغرور فواحد يقول ( نحن مطالبون بفقه السلف لا بفهم أحمد ابن حنبل )
وآخر ينكر على أحمد الرواية عن أبي معاوية
وثالث يقول ( لأحمد أمور تخالف السنة ما يستحي الخلال من ذكرها )
ورابع يقول معلقاً على قول صاحب ( لو كفر ابن تيمية لو يثلم الإسلام ) فقال : ( لو كفر أحمد لم يثلم الإسلام )
ومن نظر في كلام السلف وكيف كانوا يتكلمون عن أحمد مع سعة علمهم وينظر إلى هؤلاء كيف يتكلمون يبصر ناراً من تحت الرماد
ومن وسائل الظاهرية القديمة والحديثة الخبيثة أنهم يستخدمون قواعد صحيحة كقول مالك ( كل يؤخذ من قوله ويرد ) وينسبون من يعترض على إزرائهم على الأئمة بالتعصب ثم يأتون إلى أئمة كبار وينتقدون أقوالاً سليمة لهم ما نقدها أحد بل تتابع على نقلها دون نكير ويعارضونها بعمومات لا تخفى على صغار طلبة فضلاً عن هؤلاء الأئمة ويكون للإمام نظر دقيق على تبلغه عقولهم وما جاء البلاء لكثير من المتأخرين إلا من التحاذق على السلف
ومجموعاتهم ربما يحسن أن يسموها ( الموحدون وأهل السنة في القرون الأخيرة )
تنبيه : وأضرب لك مثالاً يبين لك ما أريد بشكل أكبر ، من المشهور في مذهب أحمد والشافعي أن شارب النبيذ يقام عليه الحد ولا تسقط شهادته
والقاعدة في المحدود أنه لا تقبل شهادته على ما سن عمر بن الخطاب
ونظر أحمد والشافعي هنا دقيق وهو أن النبيذ ليس كالخمر من كل وجه فلا يسكر إلا كثيره ، زيادة على ذلك لشاربه شبهة في آثار رووها عن الصحابة ما أنزلوها منزلتها ولم يفهمومها الفهم الصحيح ولذا كتب أحمد الأشربة في الرد عليهم
فلم يجعلوه كشارب الخمر من كل وجه ولم يخلوه من عقوبة يرتدع بها الناس ، ولو أطلقنا الحكم لبعض الناس لجعله كشارب الخمر من كل وجه ولو سلمنا الأمر لأهل التمييع لأسقطوا عنه الحد مطلقاًوربما وجد في أهل العلم من يأخذ بأحد المسلكين الآخرين ولكن المسلط الوسط السليم ما سلكه أحمد والشافعي
وإقامة الحد بمنزلة الرد والنقد في أمثلتنا ، وعدم تفسيقه وإلحاقه بالفسقة بالرواية والشهادة بمنزلة ما نذكر من الاحتمال
وأود أن أنبه أن عددا من المردود عليهم هنا قد وقع مني ظلم عليهم قديماً لا أبرره بشيء ، وهذا نصح لا علاقة له بأي أمور قديمة وقعت
تنبيه : رأيت تعقيباً لبعضهم على ما كتبت وهو من أعجب ما يكون فقد كتب رداً وكأنني أنكر تبديع من يستحق التبديع وكأنني أطلق أن الرجل إذا كان عبادة وزهد وفقه لا يجوز تبديعه أياً كانت بدعته وهذا عجب
ففي مقالي القول بعد عمرو بن مرة ومسعر والحسن بن صالح وإبراهيم التيمي في أهل البدع
وفي مقالي التصريح بأن دعاة البدعة لا يروى عنهم وأن صاحب البدعة المكفرة لا يروى عنه
وفي مقالي التصريح بتكفير الأشعرية وأن أهل الرأي لا يروى عنهم واعتبرت ما خالف ذلك زلات من قبيل الزلات المحتملة بشروط وقيود
مقالي مبني على مراعاة القرائن بحسبها وحسب الشخص فاستخراج قاعدة باجتزاء فاجر من رجل فاجر لا يقدح فيه
وفي تعقيبه عدم اعتبار قول ابن مهدي في الشهادة بدعة ! ويا ليت شعري إن لم تكن المسألة سنة وبدعة فلماذا يذكرها الخلال في السنة ! ولماذا يغضب أحمد حتى يطلق في ابن مهدي كلمة لا يطلقها في ظرف عادي
قال الخلال في السنة 485 – وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْأَثْرَمُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ وَنَحْنُ عَلَى بَابِ عَفَّانَ، فَذَكَرُوا الشَّهَادَةَ لِلَّذِينَ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: نَعَمْ نَشْهَدُ، وَغَلَّظَ الْقَوْلَ عَلَى مَنْ لَمْ يَشْهَدْ، وَاحْتَجَّ بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ، وَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بِأَشْيَاءَ فَغَضِبَ حَتَّى قَالَ: صِبْيَانٌ نَحْنُ لَيْسَ نَعْرِفُ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ، وَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ، فَقَالَ , عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ مَنْ هُوَ؟ أَيْ مَعَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ “
فإذا كان أحمد يرى قول ابن مهدي في هذا مخالفاً للأحاديث والآثار فكيف لا يكون بدعة
وأزيدك أن يحيى القطان قرين ابن مهدي كان يتوقف في التفضيل بين علي وعثمان وهذه مسألة فيها خفاء في ذلك الزمن ، وليست كمسألة الخلافة ولا كمسألة التفضيل بين الصديق وعلي
وذكر كلاماً متعلقاً بالشافعي وادعى الخبرة به
أما مسألة التوسع في الرد على أهل الرأي فأهل الرأي من أهل البدع بل من شر أهل البدع حتى أن السلف احتلموا بعض المرجئة والقدرية والشيعة وخرجوا لهم ولم يخرجوا لأهل الرأي في غالبهم
وللشافعي مناظرات كثيرة مع الشيباني يمكن أن تفرد في جزء والمناظرة تقتضي المجالسة وللشافعي قصد حسن وقد أظهر الله السنة به ولكن كثرة هذا الأمر مما ينتقده بعض الأئمة
ومدح الشافعي غير خاف على أحد وحتى مدح أحمد لفقه الشافعي ليس خافياً على أحد وإنما الشأن في نقده لبعض ما قال
وأما أمر إبراهيم الأسلمي فمعلوم أن الشافعي كان يعلم قدريته غير أن الأصل في أهل الأهواء الإخزاء والهجر إلا لضرورة ، والأسلمي كان جهمياً شيعياً قدرياً وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه : كان قدريا معتزليا جهميا ، كل بلاء فيه وقد كذبه مالك وابن مهدي والقطان وجميعهم أحذق من الشافعي
وقد قدمت أن السلف اجتنبوا الجهمية في كتبهم فكيف بجهمي كذاب ولو كانت الرواية عن أهل الأهواء مطلقاً هينة وتحت أي ظرف بشرط أن تعلم بدعة الرجل ، لما عتب مالك على معمر في روايته عن قتادة ( ذكره يعقوب في التاريخ ) ولما عتب ابن مهدي على ابن المبارك في روايته عن أبي حنيفة ( ذكره المروذي في أخبار الشيوخ )
والشافعي نفسه يقول ( الرواية عن حرام حرام ) وقال ابن معين فيمن يروي عن ابن أبي أويس كلمة غليظة
وقد كان يزيد بن زريع يتعجب ممن يكتب عن الأسلمي ويقول ( لو خرج إليهم الشيطان لكتبوا عنه )
وقال البزار :” كان يضع الحديث ، و كان يوضع له مسائل فيضع لها إسنادا و كان قدريا ، و هو من أستاذى الشافعى و عز علينا”
يعني يعز علينا احتجاج الشافعي به !
و قال إسحاق بن راهويه : ما رايت أحدا يحتج بإبراهيم بن أبى يحيى مثل الشافعى قلت للشافعى : وفى الدنيا أحد يحتج بإبراهيم بن أبى يحيى .
بل فضله الشافعي على الدراوردي وهذه زلة احتملت للشافعي رحمه الله تعالى وهذا المراد
وأما أمر حفص الفرد
وقال الهروي في ذم الكلام 1161 – أخبرنا الجارودي، أبنا إبراهيم بن محمد، ثنا أبو يحيى الساجي، حدثني أبو محمد الخراساني؛ قال: سمعت يونس ابن عبد الأعلى؛ قال:
((قالت [لي] أم الشافعي: انه ابني أن يجالسه حفص الفرد)).
قال الساجي: (([وكانت معه يحملها] إلى كل موضع)).
فقال الهروي في ذم الكلام 1161 – أخبرنا الجارودي، أبنا إبراهيم بن محمد، ثنا أبو يحيى الساجي، حدثني أبو محمد الخراساني؛
قال: سمعت يونس ابن عبد الأعلى؛ قال:
((قالت [لي] أم الشافعي: انه ابني أن يجالسه حفص الفرد)).
قال الساجي: (([وكانت معه يحملها] إلى كل موضع)).
وقال الآبري في مناقب الشافعي 59- وقال أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البوشنجي: روى حرملة عن الشافعي: ((أنه صنف في الفرق بين السحر والنبوة، فروجع في ذلك فقال: هذا صنفه حفص الفرد، ولكنه عرضه على الشافعي فرضيه)) . ومعلوم تكفير الشافعي لحفص بعد إظهاره للقول بخلق القرآن فلهذا قلت ما قلت آنفاً فلا تجعل جهلك حاكماً على ما علمت به وإنني لأعجب من رجل لا يحسن مسألة المسح على الجوربين مع كونها من مباديء مسائل العلم وفي الطهارة ويحتاج إليها كل مسلم ثم هو همه تبديع أئمة الموحدين وتكفير بعضهم والهذر في النوازل
وأخيراً أقول كل من كتب في نصرة مذاهب السلف بقصد واعتدال مما هجر أو هوجم أو كاد يهجر في هذا العصر كقولهم في أهل الرأي وأثر مجاهد وتكفير الجهمية بكافة أصنافها وقول أئمة الدعوة ومن قبلهم في العذر بالجهل ، ومسألة النور وقصة الغرانيق ونظيراتها من المسائل فجزاه الله خيراً والأمر ليس بحاجة إلى إشادتي وليس المراد من هذا المقال إلا كبح جماح المغرورين والبغاة
تنبيه آخر : بلغني أن أحدهم أنكر ما ذكرته من عمل عمران عند بعض الولاة الذين لم يحمدوا
قال أبو داود في سننه 1625 – حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، أَخْبَرَنَا أَبِي، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَطَاءٍ، مَوْلَى عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ زِيَادًا – أَوْ بَعْضَ الْأُمَرَاءِ – بَعَثَ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ لِعِمْرَانَ: أَيْنَ الْمَالُ؟ قَالَ: «وَلِلْمَالِ أَرْسَلْتَنِي، أَخَذْنَاهَا مِنْ حَيْثُ كُنَّا نَأْخُذُهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَضَعْنَاهَا حَيْثُ كُنَّا نَضَعُهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»
وزياد هذا ابن أبيه الذي كان أخوه أبو بكرة يأبى الولاية عنده لما ذكر عنه من السوء وعمران كان يكبح جماحه كما ترى ولم يتفهم هذا بعض الناس ولا يقدم أحد على الإنكار وهو لا يعلم فإن هذا سفه في العقل وعمران رضي الله عنه كان قاضياً عند زياد ثم استعفى
قال ابن أبي الدنيا في الإشراف 148 – حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ سُفْيَانَ الْعَطَّارُ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، أَنَّ رَجُلًا، قَالَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: وَاللَّهِ لَقَدْ قَضَيْتَ عَلَيَّ بِغَيْرِ الْحَقِّ. قَالَ: اللَّهِ؟ قَالَ: اللَّهِ. فَأَتَى ابْنَ زِيَادٍ فَاسْتَعْفَاهُ وقد وقع ناس في سمرة للداعي نفسه
قال ابن أبي الدنيا في منازل الإشراف 149 – حَدَّثَنِي وَلِيدُ بْنُ سُفْيَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُطَرِّفٍ، قَالَ: قِيلَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: إِنَّ سَمُرَةَ يَفْعَلُ وَيَفْعَلُ قَالَ: «مَا يَذُبُّ بِهِ عَنِ الْإِسْلَامِ أَفْضَلُ»
وقال عبد الله بن أحمد في العلل 5071 – حَدثنِي أَحْمد قَالَ حَدثنَا أَبُو دَاوُد قَالَ أَنبأَنَا شُعْبَة عَن قَتَادَة قَالَ سَمِعت مطرفًا يَقُول قيل لعمران بن حُصَيْن هلك سَمُرَة فَقَالَ مَا يذب الله بِهِ عَن الْإِسْلَام أعظم.
وابن سيرين مع عتبه عليه كان يذكر هذا أيضاً وكان من حذق الأئمة أنهم يذكرون كلمة ابن سيرين في أولها ويتركون آخرها لما فيه من إساءة أدب مع الصحابي
وأما قول الحسن في مسألة إبليس من الملائكة فقد دفع بقوة حين قال ( ما كان من الملائكة طرفة عين ) وكل آثار الصحابة والتابعين تخالف قوله كما هو الأمر في قوله تعالى ( فلما آتاهما صالحاً ) والباب توقيفي أصالة باب الاجتهادات فيه ضيق وقول الجهول أن الحسن لم يشنع
فلينظر في تفسير ابن أبي حاتم :” 12843 – عَنِ الحَسَنِ قَالَ: قاتل الله أقواما يزعمون إِنَّ إبليس كَانَ مِنْ ملائكة الله، والله تَعَالَى يَقُولُ: كَانَ مِنَ الجِنّ”
وشأن الحسن مع أنس في أمر العرنيين والحجاج معلوم ولا يحسن ذكر ألفاظه وأنس افقه منه والحجاج كان عالماً بأمر العرنيين قبل أن يلقاه أنس وإنما استوثق فحسب
وقال الهروي في ذم الكلام 1161 – أخبرنا الجارودي، أبنا إبراهيم بن محمد، ثنا أبو يحيى الساجي، حدثني أبو محمد الخراساني؛ قال: سمعت يونس ابن عبد الأعلى؛ قال: ((قالت [لي] أم الشافعي: انه ابني أن يجالسه حفص الفرد)).
قال الساجي: (([وكانت معه يحملها] إلى كل موضع)).
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم