فبعض الأفاضل يقسم المعطلة إلى قوم ( يقدمون العقل على النقل ) وآخرين
( لا يقدمون العقل على النقل )، وهذا غير صحيح
فما ألجأهم إلى التحريف الذي يسمونه
تأويلاً ، أو التفويض إلا تقديم العقل على النقل وإليك بيان ذلك تفصيلاً
قال شيخ الإسلام في درء تعارض
العقل والنقل (7/32) : وأهل العلم بالحديث أخص الناس بمعرفة ما جاء به الرسول ومعرفة
أقوال الصحابة والتابعين لهم بإحسان فإليهم المرجع في هذا الباب لا إلى من هو أجنبي
عن معرفته ليس له معرفة بذلك ولولا أنه قلد في الفقه لبعض الأئمة لكان في الشرع مثل
آحاد الجهال من العامة، فإن قيل قلت إن أكثر أئمة النفاة من الجهمية والمعتزلة كانوا
قليلي المعرفة بما جاء عن الرسول واقوال السلف في تفسير القرآن وأصول الدين وما بلغوه
عن الرسول ففي النفاة كثير ممن له معرفة بذلك.
قيل هؤلاء أنواع نوع ليس لهم خبرة بالعقليات بل هم يأخذون ما قاله النفاة
عن الحكم والدليل ويعتقدونها براهين قطعية وليس لهم قوة على الاستقلال بها بل هم في
الحقيقة مقلدون فيها وقد اعتقد أقوال أولئك فجميع ما يسمعونه من القرآن والحديث.
وأقوال السلف لا يحملونه على ما يخالف ذلك بل إما أن يظنوه موافقا لهم
وإما أن يعرضوا عنه مفوضين لمعناه، وهذه حال مثل أبي حاتم البستي وأبي سعد السمان المعتزلي
ومثل أبي ذر الهروي وأبي بكر البيهقي والقاضي عياض وأبي الفرج ابن الجوزي وأبي الحسن
علي بن المفضل المقدسي وأمثالهم.
والثاني: من يسلك في العقليات مسلك الاجتهاد ويغلط فيها كما غلط غيره فيشارك
الجهمية في بعض أصولهم الفاسدة مع أنه لا يكون له من الخبرة بكلام السلف والأئمة في
هذا الباب ما كان لأئمة السنة وإن كان يعرف متون الصحيحين وغيرهما، وهذه حال أبي محمد
بن حزم وأبي الوليد الباجي والقاضي أبي بكر بن العربي وأمثالهم، ومن هذا النوع بشر
المريسي ومحمد بن شجاع الثلجي وأمثالهما.
ونوع ثالث: سمعوا الأحاديث والآثار وعظموا مذهب السلف وشاركوا المتكلمين
الجهمية في بعض أصولهم الباقية ولم يكن لهم من الخبرة بالقرآن والحديث والآثار ما لأئمة
السنة والحديث لا من جهة المعرفة والتمييز بين صحيحها وضعيفها ولا من جهة الفهم لمعانيها
وقد ظنوا صحة بعض الأصول العقلية للنفاة الجهمية ورأوا ما بينهما من التعارض، وهذا
حال أبي بكر بن فورك والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وأمثالهم .
ولهذا كان هؤلاء تارة يختارون طريقة أهل التأويل كما فعله ابن فورك وأمثاله
في الكلام على مشكل الآثار، وتارة يفوضون معانيها ويقولون تجري على ظواهرها كما فعله
القاضي أبو يعلى وأمثاله في ذلك، وتارة يختلف اجتهادهم فيرجحون هذا تارة وهذا تارة
كحال ابن عقيل وأمثاله”
كلام شيخ الإسلام هذا جليل جداً
، ولكنه يحتاج إلى إيضاح.
فقد ذكر شيخ الإسلام أن الذين يقدمون العقل على النقل لا خبرة لهم بالمنقولات
أصلاً ، فأورد على نفسه اعتراضاً أن من النفاة ( المعطلة ) من كان لهم خبرة بالحديث
وقد عرفوا بروايته، فأجاب على هذا الاعتراض بأنهم على أقسام ثلاثة:
القسم الأول : قسم يقلد الجهمية في أصولهم العقلية ويعتقد أنها براهين
قطعية ولهذا يؤول ويفوض كل ما خالفها من النصوص وكلام السلف، وهذه حال ابن حبان ( أبي
حاتم البستي ) وابن الجوزي والبيهقي، فهؤلاء جميعاً يسميهم شيخ الإسلام ( نفاة ) ويجعلهم
من أقسام المعطلة ولا يلحقهم بأهل الحديث في المعتقد بل يجعلهم قسيماً لأهل الحديث.
وحقيقة مذهب هؤلاء تقديم العقل على النقل، فهم أولوا أو فوضوا كل ما اعتقدوا
مخالفته للأدلة العقلية عندهم ، فما منعهم من الأخذ بالظواهر إلا مخالفة الظواهر عندهم
للعقل ، وهذه هي عين النتيجة التي يخرج بها الرازي وغيره من اعتقاد تقديم العقل على
النقل، وفي بعض الصفات كالسمع والبصر والعلم يأخذون بظواهر لارتفاع الامتناع العقلي
عنها عندهم.
القسم الثاني : من له اجتهاد في العقليات يوافق اجتهاد الجهمية وهؤلاء
كابن حزم والباجي وابن العربي، بل جعل شيخ الإسلام المريسي من هذه الطبقة ، وتقديم
هؤلاء للعقل على النقل واضح جلي، وتأمل قول شيخ الإسلام ( مع أنه لايكون له من الخبرة
بكلام السلف والأئمة في هذا الباب ما كان لأئمة السنة وإن كان يعرف متون الصحيحين وغيرهما)
واضح في أنه لا يراهم من أئمة السنة.
القسم الثالث : قسم غلطوا في فهم مذهب السلف ، وشاركوا الجهمية في بعض
أصولهم العقلية ولم يكن لهم اجتهاد في العقليات فوقعوا في التعطيل وهؤلاء كأبي يعلى
وابن فورك وابن عقيل.
وتأمل قول ابن تيمية فيهم ( ولم
يكن لهم من الخبرة بالقرآن والحديث والآثار ما لأئمة السنة والحديث)، مما يدل على أنه
لا يراهم من أهل السنة والحديث.
واعلم -رحمك الله- أن العقل لا يعارض النقل ، ولكن هؤلاء اقتنعوا بأصول
فاسدة ظنوها عقليات صحيحة ، وقد آل بهم الأمر إلى التجهم تارة والقرمطة أخرى !
فأن قيل : ما معنى هذا ؟
فيقال : التجهم هو تحريف الصفات أو تفويضها ظناً أن ظواهرها تمتنع على
رب العالمين
وأما القرمطة فالقول: بأن الأنبياء خاطبوا الناس بالتخييل ، وأنهم أوهموهم
التشبيه ، مع أنه غير حقيقي لأن النفوس لا تركن إلا إلى التشبيه ، فينسبون الأنبياء
إلى مخادعة الناس.
فإن قلت : أفيقول بهذا عالم ؟!
قلت لك : مع الأسف علم الكلام كان له أثره السيء على الكثير من هولاء ،
فإن هذه الكلمة القبيحة قالها الكافر ابن سينا ، وتلقاها عنه المبتدع الغزالي وتلقاها
عن الغزالي ابن الجوزي وسطرها في صيد الخاطر !
قال شيخ الإسلام في درء تعارض العقل والنقل (1/179) : “والمتفلسفة
الذين أثبتوا النبوات على وجه يوافق أصولهم الفاسدة كابن سينا وأمثاله لم يقروا بأن
الأنبياء يعلمون ما يعلمونه بخبر يأتيهم عن الله لا بخبر ملك ولا غيره بل زعموا أنهم
يعلمونه بقوة عقلية لكونهم أكمل من غيرهم في قوة الحدس ويسمون ذلك القوة القدسية فحصروا
علوم الأنبياء في ذلك، وكان حقيقة قولهم أن الأنبياء من جنس غيرهم وأنهم لم يعلموا
شيئا بالخبر ولهذا صار هؤلاء لا يستفيدون شيئا بخبر الأنبياء بل يقولون إنهم خاطبوا
الناس بطريق التخييل لمنفعة الجمهور وحقيقة قولهم أنهم كذبوا لمصلحة الجمهور وهؤلاء
في الحقيقة يكذبون الرسل فنتكلم معهم في تحقيق النبوة على الوجه الحق لا في معارضة
العقل والشرع.
وهذا الذي ذكرته مما صرح به فضلاؤهم يقولون إن الرسل إنما ينتفع بخبرهم
الجمهور في التخييل لا ينتفع بخبرهم أحد من العامة والخاصة في معرفة الغيب بل الخاصة
عندهم تعلم ذلك بالعقل المناقض لأخبار الأنبياء والعامة لا تعلم ذلك لا بعقل ولا خبر
والنبوة إنما فائدتها تخييل ما يخبرون به للجمهور كما يصرح بذلك الفارابي وابن سينا
وأتباعهما”.
فتأمل ما ذكره شيخ الإسلام عن ابن سينا وقارنه مع قال ابن الجوزي في صيد
الخاطر ص116 : “من أضر الأشياء على العوام كلام المتأولين والنفاة للصفات والإضافات.
فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بالغوا في الإثبات، ليتقرر في أنفس العوام وجود
الخالق، فإن النفوس تأنس بالإثبات، فإذا سمع العامي ما يوجب النفي، طرد عن قلبه الإثبات،
فكان أعظم ضرر عليه، وكان هذا المنزه من العلماء -على زعمه- مقاومًا لإثبات الأنبياء
عليهم الصلاة والسلام بالمحو، وشارعًا في إبطال ما يفتون به.
وبيان هذا: أن الله تعالى أخبر باستوائه على العرش، فأنست النفوس إلى إثبات
الإله ووجوده:
قال تعالى: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ﴾ . وقال تعالى: ﴿يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾
. وقال: ﴿وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ﴾
وأخبر أنه ينزل إلى السماء الدنيا.
وقال: “قلوب العباد بين أصبعين”
وقال: “كتب التوراة بيده”.
“وكتب كتابًا فهو عنده فوق العرش”. إلى غير ذلك مما يطول ذكره.
فإذا امتلأ العامي والصبي من الإثبات، وكاد يأنس من الأوصاف بما يفهمه
الحس، قيل له: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾فمحا من قلبه ما نقشه الخيال، وتبقى ألفاظ
الإثبات متمكنة.
ولهذا أقر الشرع مثل هذا، فسمع
مُنْشِدًا يقول: “وفوق العرش رب العالمينا” فضحك.
وقال له آخر: أو يضحك ربنا؟ فقال: “نعم”. وقال: “أنه على
عرشه هكذا”، كل هذا ليقرر الإثبات في النفوس!
وأكثر الخلق لا يعرفون الإثبات إلا على ما يعلمون من الشاهد، فيقنع منهم
بذلك، إلى أن يفهموا التنزيه.
ولهذا صحح إسلام من انفتل بالسجود.
فأما إذا ابتدئ بالعامي الفارغ
من فهم الإثبات، فقلنا: ليس في السماء! ولا على العرش! ولا يوصف بيد! وكلامه صفة قائمة
بذاته، وليس عندنا منه شيء! ولا يتصور نزوله: انمحى من قلبه تعظيم المصحف، ولم يتوضع
في سره إثبات إله. وهذه جناية عظيمة على الأنبياء، توجب نقض ما تعبوا في بيانه، ولا
يجوز لعالم أن يأتي إلى عقيدة عامي قد أنس بالإثبات فيهوشها، فإنه يفسده، ويصعب صلاحه.
فأما العالم، فإنا قد أمناه؛ لأنه لا يخفى عليه استحالة تجدد صفة الله
تعالى، وأنه لا يجوز أن يكون استوى كما يعلم، ولا يجوز أن يكون محمولًا، ولا أن يوصف
بملاصقة ومس، ولا أن ينتقل، ولا يخفى عليه أن المراد بتقليب القلوب بين إصبعين الإعلام
بالتحكم في القلوب، فإن ما يديره الإنسان بين إصبعين هو متحكم فيه إلى الغاية، ولا
يحتاج إلى تأويل من قال: الإصبع الأثر الحسن، فالقلوب بين أثرين من آثار الربوبية،
وهما: الإقامة، والإزاغة. ولا إلى تأويل من قال: يداه: نعمتاه؛ لأنه إذا فهم أن المقصود
الإثبات، وقد حدثنا بما نعقل، وضربت لنا الأمثال بما نعلم، وقد ثبت عندنا بالأصل المقطوع
به أنه لا يجوز عليه ما يعرفه الحس، علمنا المقصود بذكر ذلك”.
فتأمل كيف يصرح أن هناك عقيدتان ، عقيدة للعوام ( الجمهور ) وعقيدة ( للعلماء
) ، فالعالم عنده لا يخفى عليه ( استحالة تجدد صفة الله عز وجل ) ( يعني استحالة الصفات
الفعلية ) واستحالة أن يكون على شيء أو أن يمس شيء خلافاً لظواهر النصوص !
وأما العوام فنقرهم على ( المستحيل ) لأنهم لا يفهمون إلا الإثبات ! وابن
الجوزي قد ناقض نفسه فصنف كتاباً أسماه ( دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه ) صرح فيه بتأويل
الصفات ، والكتاب يقرؤه العامي والعالم !
ونحو من كلام ابن الجوزي قال العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام(
1/202 ) : “وكل ذلك مما لا يمكن تصويب للمجتهدين فيه بل الحق مع واحد منهم , والباقون
مخطئون خطأ معفوا عنه لمشقة الخروج منه والانفكاك عنه , ولا سيما قول معتقد الجهة فإن
اعتقاد موجود ليس بمتحرك ولا ساكن ولا منفصل عن العالم ولا متصل به , ولا داخل فيه
ولا خارج عنه لا يهتدي إليه أحد بأصل الخلقة في العادة , ولا يهتدي إليه أحد إلا بعد
الوقوف على أدلة صعبة المدرك عسرة الفهم فلأجل هذه المشقة عفا الله عنها في حق العامي
ولذلك كان صلى الله عليه وسلم لا يلزم أحدا ممن أسلم على البحث عن ذلك بل كان يقرهم
على ما يعلم أنه لا انفكاك لهم عنه , وما زال الخلفاء الراشدون والعلماء المهتدون يقرون
على ذلك مع علمهم بأن العامة لم يقفوا على الحق فيه ولم يهتدوا إليه ،وأجروا عليهم
أحكام الإسلام من جواز المناكحات والتوارث والصلاة عليهم إذا ماتوا وتغسيلهم وتكفينهم
وحملهم ودفنهم في مقابر المسلمين , ولولا أن الله قد سامحهم بذلك وعفا عنه لعسر الانفصال
منه ولما أجريت عليهم أحكام المسلمين بإجماع المسلمين , ومن زعم أن الإله يحل في شيء
من أجساد الناس أو غيرهم فهو كافر لأن الشرع إنما عفا عن المجسمة لغلبة التجسم على
الناس فإنهم لا يفهمون موجودا في غير جهة بخلاف الحلول فإنه لا يعم الابتلاء به ولا
يخطر على قلب عاقل ولا يعفى عنه”.
فهنا العز بن عبد السلام يصرح أن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون
كانوا يقرون الناس على التجسيم ، ويا ليت شعري ألا يسعك ما وسعهم فلا تتكلم بتعطيلك
البتة.
والعجيب أنه لم يؤثرلا كلمة واحدة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن
علماء الصحابة في نصرة مذهب المعطلة ، وهم يعترفون بذلك ولا شك أن الناس في زمنهم لم
يكونوا كلهم أعراب ، بل كان الغالب على الناس رجاحة العقل وسداده ومع ذلك تركوا الناس
ولم يذكروا التعطيل، مما يدل على بطلانه ، وإذا كان الناس في زمن السلف لم تستوعب عقولهم
-على زعم العز- عقيدة التنزيه فهل يستوعبها الناس اليوم !
وللقرطبي ( صاحب المفهم وليس صاحب التفسير ) كلام نحواً من كلام العز وابن
الجوزي، قال ابن حجر في الفتح (20/ 491) :” وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ : أَصْل وَضْع
الشَّخْص يَعْنِي فِي اللُّغَة لِجِرْمِ الْإِنْسَان وَجِسْمه ، يُقَال شَخْص فُلَان
وَجُثْمَانه ، وَاسْتُعْمِلَ فِي كُلّ شَيْء ظَاهِر ، يُقَال شَخَصَ الشَّيْء إِذَا
ظَهَرَ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُحَال عَلَى اللَّه تَعَالَى فَوَجَبَ تَأْوِيله ، فَقِيلَ
مَعْنَاهُ لَا مُرْتَفِع ، وَقِيلَ لَا شَيْء ، وَهُوَ أَشْبَهُ مِنْ الْأَوَّل ، وَأَوْضَحُ
مِنْهُ لَا مَوْجُود أَوْ لَا أَحَد وَهُوَ أَحْسَنهَا ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الرِّوَايَة
الْأُخْرَى ؛ وَكَأَنَّ لَفْظ الشَّخْص أُطْلِقَ مُبَالَغَة فِي إِثْبَات إِيمَان مَنْ
يَتَعَذَّر عَلَى فَهْمه مَوْجُود لَا يُشْبِه شَيْئًا مِنْ الْمَوْجُودَات ، لِئَلَّا
يُفْضِي بِهِ ذَلِكَ إِلَى النَّفْي وَالتَّعْطِيل ، وَهُوَ نَحْو قَوْله صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْجَارِيَةِ ” أَيْنَ اللَّه ؟ قَالَتْ فِي السَّمَاء
” فَحَكَمَ بِإِيمَانِهَا مَخَافَة أَنْ تَقَع فِي التَّعْطِيل لِقُصُورِ فَهْمهَا
عَمَّا يَنْبَغِي لَهُ مِنْ تَنْزِيهه مِمَّا يَقْتَضِي التَّشْبِيه ، تَعَالَى اللَّه
عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا”.
سبحان الله ! ، النبي صلى الله عليه وسلم يقول ( مؤمنة ) وهو يقول ( قاصرة
الفهم عن التنزيه ) ، ويزعم أن النبي أقرها على التشبيه مخافة أن تقع في التعطيل ،
فنسب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإقرار على الباطل ! بل الإقرار على الكفر والله
المستعان ، والعجيب أن ابن حجر ينقل هذا الكلام ولا يتعقبه، مع أنه قد قرر في آخر الفتح
أنه لا يجوز استخدام الإشارة الدالة على تحقيق الإثبات أمام العامة لئلا يقعوا في التشبيه.
فإن قلت : ما الإشارة الحسية الدالة على الإثبات ؟
قلت لك : قال أبو داود في سننه 4728 – حدثنا علي بن نصر ومحمد بن يونس
النسائي المعنى قالا أخبرنا عبد الله بن يزيد المقرىء ثنا حرملة يعني ابن عمران حدثني
أبو يونس سليم بن جبير مولى أبي هريرة قال: سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الآية ﴿إن الله
يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها﴾ إلى قوله تعالى ﴿سميعا بصيرا﴾، قال رأيت رسول
الله صلى الله عليه و سلم يضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه قال أبو هريرة
رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقرؤها ويضع إصبعيه قال ابن يونس قال المقري يعني
إن الله سميع بصير يعني أن لله سمعا وبصرا
قال أبو داود وهذا رد على الجهمية.
فأشارة النبي صلى الله عليه وسلم إلى عينيه عند قوله بصيراً ، وإلى أذنيه
عند قوله سميعاً يدل على تحقيق الصفة ولا يدل على التشبيه فإن مما استقر في نفوس الناس
أن صفة الخالق غير صفة المخلوق.
هذه الإشارة الحسية مع فعل النبي صلى الله عليه وسلم لها منع منها الحافظ
، وهنا يقف الأشعري في حيرة (هل نقر الناس على التشبيه أم لا نقرهم الكلام متضارب).
قال مسلم في صحيحه 7153- [25-…] حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ ،
حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ ، يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ
، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِقْسَمٍ ، أَنَّهُ نَظَرَ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ
كَيْفَ يَحْكِي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : يَأْخُذُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ سَمَاوَاتِهِ وَأَرَضِيهِ بِيَدَيْهِ ، فَيَقُولُ : أَنَا اللَّهُ
، وَيَقْبِضُ أَصَابِعَهُ وَيَبْسُطُهَا ، أَنَا الْمَلِكُ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ
يَتَحَرَّكُ مِنْ أَسْفَلِ شَيْءٍ مِنْهُ ، حَتَّى إِنِّي لأَقُولُ : أَسَاقِطٌ هُوَ
بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟.
فهنا النبي صلى الله عليه وسلم يستخدم الإشارة الحسية على المنبر فهل هو
غير حريص على عقائدة الناس !
قال عبد الله بن أحمد في السنة 423 – سمعت أبي رحمه الله ، ثنا يحيى بن
سعيد ، بحديث سفيان عن الأعمش ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن عبيدة ، عن عبد الله ،
عن النبي صلى الله عليه وسلم : « أن الله يمسك السماوات على أصبع » قال أبي رحمه الله
: جعل يحيى يشير بأصابعه وأراني أبي كيف جعل يشير بأصبعه يضع أصبعا أصبعا حتى أتى على
آخرها، وهذا يدل على أن المحدثين لم يفهموا خصوصية الإشارة الحسية بالنبي صلى الله
عليه وسلم فيحيى القطان يفعلها ويقره أحمد، وهذه الأخبار من أحسن ما يرد به على المفوضة،
وهؤلاء قد أحسن ابن القيم وصفهم بأنهم يتجهمون تارة ويقرمطون أخر.
واعلم أن السلف قد ضللوا وكفروا ثلاث طوائف في صفة واحدة ، وهي صفة الكلام
فكفروا الجهمية الصرحاء الذين قالوا بخلق القرآن وجهموا اللفظية وجهموا الواقفة، وكان
الإمام أحمد يغضب ممن يقول ( اللفظية مبتدعة ) فيقول (إيش مبتدعة بل هم جهمية)، فكيف
لو رأى صنيع من عطل عامة الصفات ، وقد في النقليات قولاً منكراً ، فهذا الفخر الرازي
الذي يزعم أن الأدلة النقلية لا تفيد العلم بحال.
قال الزركشي في البحر المحيط (1/ 29) : “وَاخْتَلَفُوا فِي الدَّلَائِلِ
اللَّفْظِيَّةِ هَلْ تُفِيدُ الْقَطْعَ ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ :
أَحَدُهَا : نَعَمْ، وَحَكَاهُ
الْأَصْفَهَانِيُّ فِي شَرْحِ الْمَحْصُولِ ” عَنْ الْمُعْتَزِلَةِ ، وَعَنْ أَكْثَرِ
أَصْحَابِنَا.
وَالثَّانِي : أَنَّهَا لَا
تُفِيدُ.
وَالثَّالِثُ : وَهُوَ اخْتِيَارُ
فَخْرِ الدِّينِ الرَّازِيَّ أَنَّهَا تُفِيدُ الْقَطْعَ إنْ اقْتَرَنَتْ بِهِ قَرَائِنُ
مُشَاهَدَةٌ ، أَوْ مَعْقُولَةٌ كَالتَّوَاتُرِ وَلَا يُفِيدُ الْيَقِينَ إلَّا بَعْدَ
تَيَقُّنِ أُمُورٍ عَشَرَةٍ : عِصْمَةِ رُوَاةِ نَاقِلِيهَا ، وَصِحَّةِ إعْرَابِهَا
، وَتَصْرِيفِهَا ، وَعَدَمِ الِاشْتِرَاكِ ، وَالْمَجَازِ ، وَالتَّخْصِيصِ بِالْأَشْخَاصِ،
وَالْأَزْمَانِ ، وَعَدَمِ الْإِضْمَارِ ، وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ ، وَعَدَمِ
الْمُعَارِضِ اللَّفْظِيِّ ، قِيلَ : وَلَمْ يَذْكُرْ النَّسْخَ ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ
عِنْدَهُ فِي التَّخْصِيصِ بِالْأَزْمَانِ”.
فانظر إلى هذه الشروط وضعها الرازي لإفادة الأدلة (قرآناً وسنة) القطع
، لا تنطبق على أي نص، وهذا إسقاط منه للنصوص، وقال الرازي وهو يبحث في مسألة تكليف
ما لا يطاق في كتابه المحصول (1/222) :” لأنك قد علمت أن القواطع العقلية لا تعارضها
الظواهر النقلية بل تعلم أن تلك الظواهر مأولة ولا حاجة إلى تعيين تأويلها”.
وقد شيخ الإسلام أن المعتزلة أكثر تعظيماً للنصوص من الفخر الرازي، قال
شيخ الإسلام درء التعارض (5/328) : “وهذا الذي ذكرناه من أن هذا الأصل يوجب عدم
الاستدلال بكلام الله ورسوله على المسائل العلمية قد اعترف حذاقهم به بل التزمه من
التزمه من متأخري أهل الكلام كالرازي كما التزمته الملاحدة الفلاسفة وأما المعتزلة
فلا يقولون الأدلة السمعية لا تفيد اليقين بل يقولون لا يحتج بالسمع على مسائل التوحيد
والعدل لأن ذلك بزعمهم يتوقف العلم بصدق الرسول عليه، وكذلك متأخرو الأشعرية يجعلون
القول في الصفات من الأصول العقلية”.
ومع هذا يعتبره السيوطي مجدداً بل قال (مسالك الحنفا) :” هذا كلام
الإمام فخر الدين الرازي بحروفه، وناهيك به إمامة وجلالة، فإنه إمام أهل السنة في زمانه،
والقائم في بالرد على الفرق المبتدعة في وقته، والناصر لمذهب الأشاعرة في عصره، وهو
العالم المبعوث على رأس المائة السادسة ليجدد لهذه الأمة أمر دينها اهـ
هذا مع تصنيفه ( صون المنطق والكلام عن علم المنطق والكلام ) ، وهذا من
تناقضه!
وكيف لو رأى الإمام أحمد قول ابن العربي المالكي في قانون التأويل 461
:” وتعجبوا من رأس المحققين -يعني الجويني- يعول في نفي الآفات على السمع ولا
يجوز أن يكون السمع طريقاً إلى معرفة الباري ولا شيء من صفاته لأن السمع منه”.
وهذه العبارة السيئة واضحة في أن النصوص لا يعتمد عليها في باب الصفات
وأن التعويل على العقل فقط، قال شيخ الإسلام في درء التعارض (7/ 236) :” وهذا
مثل ما ذكره أبو نصر السجزي في الإبانة قال حكى محمد بن عبد الله المغربي المالكي وكان
فقيها صالحا عن الشيخ أبي سعيد البرقي وهو من شيوخ فقهاء المالكيين ببرقة عن أستاذه
خلف المعلم وكان من فقهاء المالكيين قال أقام الأشعري أربعين سنة على الاعتزال ثم أظهر
التوبة فرجع عن الفروع وثبت على الأصول، قال أبو نصر وهذا كلام خبير بمذهب الأشعري
وغوره.
قلت: ليس مراده بالأصول ما أظهروه من مخالفة السنة فإن الأشعري مخالف لهم
فيما أظهروه من مخالفة السنة كمسألة الرؤية والقرآن والصفات ولكن أصولهم الكلامية العقلية
التي بنوا عليها الفروع المخالفة للسنة مثل هذا الأصل الذي بنوا عليه حدوث العالم وإثبات
الصانع فإن هذا أصل أصولهم كما قد بينا كلام أبي الحسين البصري وغيره في ذلك وأن الأصل
الذي بنت عليه المعتزلة كلامها في أصول الدين هو هذا الأصل الذي ذكره الأشعري لكنه
مخالف لهم في كثير من لوازم ذلك وفروعه وجاء كثير من أتباعه المتأخرين كأتباع صاحب
الإرشاد فأعطوا الأصول التي سلمها للمعتزلة حقها من اللوازم فوافقوا المعتزلة على موجبها
وخالفوا شيخهم أبا الحسن وأئمة أصحابه فنفوا الصفات الخبرية ونفوا العلو وفسروا الرؤية
بمزيد علم لا ينازعهم فيه المعتزلةوقالوا ليس بيننا وبين المعتزلة خلاف في المعنى وإنما
خلافهم مع المجسمة”.
فهذا شيخ الإسلام يصحح قول من قال ( الأشعري يوافق المعتزلة في الأصول
) مع أنه يرد عليهم ويكفرهم ، فكيف لا يكون موافقاً للرازي في الأصول ما وافقه في المقدمة
وهي اعتقاد أن ظواهر النصوص تشبيه ، وفي النتيجة وهي التعطيل تأويلاً أو تفويضاً، وتأمل
كيف أن شيخ الإسلام يصرح بأن متأخري الأشاعرة اقتربوا من المعتزلة كثيراً حتى لم يعد
بينهم كبير فرق.
وقد قال شيخ الإسلام عن العقيدة الأصبهانية وهي من عقائد متأخري الأشاعرة
، أنها عين عقيدة المعتزلة البصريين ، بل إن عقيدة المعتزلة البصريين خيرٌ منها.
قال شيخ الإسلام في شرح العقيدة الأصبهانية ص79 : “ثم هذا الاعتقاد
المشروح مع أنه ليس فيه زيادة على اعتقاد المعتزلة البصريين فاعتقاد المعتزلة البصريين
خير منه فإن في هذا المعتقد من اعتقاد المتفلسفة في التوحيد ما لا يرضاه المعتزلة”.
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم