كلام نفيس لابن قتيبة في دلائل النبوة: “وليس لأمة من الأمم إسناد كإسنادهم؛ رجل عن رجل وثقة عن ثقة عن ثقة”

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

قال قوام السنة الأصبهاني في كتابه «دلائل النبوة»: “قال ابن قتيبة في كلام ذكره قال ومما يدل على صدقه أن الأعمال تدل على صدق أهلها ومما يوجب تصديقه أنه كان أشرف الأشراف وأحلم الحلماء وأجود الأجواد وأنجد الأنجاد وأزهد الزهاد كان يرقِّع ثوبه ويخصف نعله ويُصلِح خَصَّه ويتوسد يدَه ويمهن أهله ويأكل بالأرض ويقول إنما أنا عبدٌ آكل كما يأكل العبيد ويلبسُ العباءَ ويجالسُ المساكين ويمشي في الأسواق ولم يُرَ ضاحكا ملء فيهِ ولا آكِلا وحده ولا ضاربا بيده إلا في سبيل ربه وقام حتى تورمت قدماه وكان يُسمَع لجوفه إذا قام بالليل للصلاة أزيز كأزيز المِرجَل من البكاء وقال شيبتني هود وأخواتها وكان من دعائه ﷺ اللهم ارزقني عينين هطالتين تذرفان الدموع تُشفياني من مخافتك قبل أن تكون الدموعُ دما والأضراسُ جمرا (لا يثبت هذا) وأقَصَّ ﷺ من نفسه وقُبض ودرعه مرهونة على شعير اقترضه لطعمه ولم يورِّث ولدَه وقال أنا معشر الأنبياء لا نورِّث ما تركناه صدقة وقد مدحه الله بجميع أخلاقه فقال {وإنك لعلى خلق عظيم} فمن استبعد منهم هذه الأشياء واتهم بعض هذه الأخبار فهذه حجرتُه التي كان ينزل فيها هو وأهله وبها مقبره وهذه بُردُه التي يلبسها الخلفاء في الأعياد وهذا قدَحُه الذي كان يشرب فيه وهذه نعله وهذه كتبه في أكارع الأديم.

قال ابن قتيبة وهذه شريعته أسهل الشرائع وأطيبها أحل فيها الطيبات وحرم الخبائث وأمر ببر الوالدين وصلة الرحم والصدقة والعفو والأمر بالمعروف والصفح عن الجاهلين ومجانبة الغيبة والكذب والنميمة والفواحش وشرب الخمر والقمار وحضَّ على كل حسن وردع عن كل قبيح وبيَّن للناس ما يأخذون وما يتقون في فرائضهم وأحكامهم وزكاتهم وطلاقهم وعتقهم وحجهم ومعاملاتهم وسائر أمور دينهم وأغناهم عن جميع الأمم وعن أهل الكتب وأحوجَ المخالفين لهم إلى ما عندهم فالنصارى تستعمل في كثير من المواريث فرائضهم وتستعمل في المعاملات أحكامهم وكذلك اليهود تلجأ في أحكام إلى حكماء المسلمين وليس لأمة من الأمم إسناد كإسنادهم رجل عن رجل وثقة عن ثقة عن ثقة حتى يبلغ بذلك رسول الله ﷺ وصحابته يبيِّن الصحيح والسقيم والمنقطع والسليم قال وفي بعض ما اقتصصنا كفاية لمن عقل وبلاغ لمن اعتبر وشفاء لمن شك فما يمنع من كانت له أذن تسمع وقلب يفقه وعين تبصر أن يفيء إلى الله تعالى وينيب إلى الحق قبل الفوت بمفاجأة الموت فإنه ليس من الدين عوض ولا من الله مهرب ولا بعد الموت مستعتب ولا دار إلا الجنة أو النار”.

أقول: هذا الكلام على اختصاره يُغني عن مجلدات في ضبط هذا الباب، وقد حفظه لنا قوام السنة الأصبهاني. 

يأتي عدم فهم هذا الباب عادةً من إهمال حقيقة أن للحياة معنى، وأن لنا خالقاً أوجدنا في هذه الدنيا لحكمة، وهي حقيقة فطرية، ثم بعد هذه الحقيقة تنظر في الأديان وهكذا تفهم وتهتدي.

وأيضاً حقيقة أن هذا الوحي اتفاقاً جاء به رجل أمي بعد الأربعين من عمره، وما قرأ في حياته كتاباً، ولا في أمته نظيراً له، وذلك غيَّر وجه الدنيا. 

فمن الناس من يبهره حفظ الله عز وجل له وتحديه لقومه، مع كثرة أعدائه وضعف ناصره، ويعدُّه من أعلى دلائل النبوة. 

ومن الناس من يبهره كلامه بعلوم أهل الكتاب وعجزهم عن إحراجه، وتحديه لهم وطلبه المباهلة. 

بل وإيمان جماعة من كبرائهم وتصديقهم بما ذكر من أخبارهم عنده، وقد سُجِّل ذلك في القرآن: {أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل} [الشعراء].

{وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين} [الأحقاف].

{ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب} [الرعد].

{وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين} [المائدة].

ومن الناس من يبهره نظم القرآن وسلاسته، وما فيه من بيِّنات عقلية في إثبات النبوات والإلهيات والمعاد والقصص ذوات العبر، والحث على عموم الفضائل مع الوعد والوعيد والكلام عن العالم الغيبي، مع الأحكام بسلاسة تامة وعجز العرب عن الإتيان بمثله.

ويعدُّون ذلك في أعلى دلائل النبوة.

ومنهم من يبهره أمر العبادة التي فيها مشقة والحث على مكارم الأخلاق، مع التزامه بكل هذا قبل كل أحد، مما جمع قلوب أصحابه عليه، وهذا ما أشار إليه ابن قتيبة.

ومنهم من يتكلم عن الإخبار بالمغيَّبات، فمن ذلك ما في القرآن مثل: {سيهزم الجمع ويولون الدبر} وهذا شاهَده الصحابة، ومنه ما ظهر في أواسط الزمان كقتال المسلمين للتتر ذوي نعال الشعر كأن وجوههم المجان المطرَّقة، ومنه ما رأيناه في زماننا هذا خاصة مثل خبر: «وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان» وخبر «تداعى عليكم الأمم» وغيرها كثير. 

ومنهم من هو أبعد غوراً، فيتعجب من واقعية الشريعة مع حثها على الفضيلة واتِّزانها، فلا تراها منحازة لفريق دون فريق، وعادةُ الأفكار البشرية أن تكون متأثرة بنزعات مؤسسيها، غير أن هذا وحي. 

وتعظيم حق الله عز وجل فوق كل حق، ونقض القرآن لباطل كل مبطل، حتى قبل أن يظهر هؤلاء المبطلون (وهذا يعلمه المشتغلون بدراسة العقيدة).

غير أن الأمر العجيب الذي سجله ابن قتيبة أنه عدَّ علم الحديث في دلائل النبوة حين قال: “وليس لأمة من الأمم إسناد كإسنادهم رجل عن رجل وثقة عن ثقة عن ثقة حتى يبلغ بذلك رسول الله ﷺ وصحابته يبيِّن الصحيح والسقيم والمنقطع والسليم”.

وأهل الحديث من دلائل النبوة في أنهم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة والمؤيَّدون بالحجج، ومن دلائل النبوة في أنهم باب كرامة الله عز وجل لنبيه، إذ لم تُدرس أحوال رجل في التاريخ بالدقة التي دُرست أحواله، حتى يعرف كل رجل من أهل الإسلام ممن عاين شيئاً من العلم من أحواله أموراً لا يعرفها عن أجداده الأقربين.