كلام نفيس لابن شيخ الحزاميين في أثر العقيدة الصحيحة في الصفات على القلب..
من القضايا التي يقررها الكثير من المثقفين أن عقيدة الناس في الصفات لا تؤثر عليهم قلبياً وبالتالي لا تؤثر على سلوكهم أو تصوراتهم في بقية القضايا، وليس الأمر كذلك بل هذه المسائل هي أعظم المسائل تأثيراً على القلب والسلوك والذهن وهذا باتفاق الناس المتنازعين في هذا.
لذلك تجد أهل الورع والتدين من السلف يشتدون على المخالف في هذه القضايا أكثر من غيرها وشرف العلم من شرف المعلوم ولكن اليوم من آثار الإنسانوية الخفية التي تسللت إلى نفوس الكثير من المتدينين فضلاً عن غيرهم استصغار كل بحث لا يرون له متعلقاً سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً مباشراً، وقد وقفت على كلام نفيس في هذا الباب في كتاب الصفات لابن المحب الصامت تلميذ شيخ الإسلام نقله عن زميله ابن شيخ الحزاميين الذي كان صوفياً أشعرياً وهداه الله عز وجل بشيخ الإسلام.
فهذا الرجل عاش السلوك والتصوف على طريقة أهل التعطيل ثم بعد ذلك تزهد على الطريقة السنية ومثل هذا كلامه كلام خبير، يقول ابن المحب في الصفات (3/1149) ناقلا عن ابن شيخ الحزاميين:
“واعلم أن آثار الصفات المقدسة متنوعة ، كل يلوح بقلبه على قدر ما كشف له من حجابها فأول الصفات تبدو لقلوب العارفين صفة العلو ، يتعرف سبحانه إلى قلوبهم بها ، فإذا لاحت تضاءل العبد خاضعاً نازلاً إلى التخوم تواضعاً للعلي بذاته وصفاته فوق الممالك للحي القيوم .
ومنهم من تنازله صفة الكلام ، وهم أهل العلم بآياته والخشية له والفهم عنه ، وللكلام سراب من المحبة عجيب ، فهو سيد المعارف ومفتاحها بعد صفة العلو ، لأن صفة العلو اقتضت الإثبات وتوجهت القلوب إليه وأصغت بأسماعها إليه ، فسمعت بعد ذلك كلامه وفهمت عنه ، فلاح لهم فيه تجليات الجمال والجلال والعظمة والكمال
ظهر الموصوف لقلوبهم من الكلام ، تارة بوعده ، وتارة بوعيده وتارة بقهره وتارة بلطفه ، وتارة برحمته وتارة بتهديده وشدة بطشه ، فدارت عليهم الكاسات وتنوعت لديهم الأشرية الموجبة للحب والتعظيم لاختلاف الصفات ، فكل صفة اقتضت ذوقاً ، وكل ذوق اقتضى حبا
وتجليات الصفات في القرآن لا يحاط بها ، وكل يلوح على قدر فهمه منه ومن ختمت الشهوات على قلبه لا يتجاوز صورة الكلام إلى معناه ، ولا تخرق رسمه إلى غايته ومنتهاه ( وأن إلى ربك المنتهى ) وغاية ما يؤول إليه أمره يسري أفكاره في علة المرفوع وعامل المنصوب ، والإعجاز في الفصاحة والبيان كما هو غاية مسمى إقدام من حول الرسوم ، ولم يطعم كيفية الفهوم ، إنما الفهم عن الله والعلم به أدنى مرتبة أحوال القوم فيه أن تغيب قلوبهم عن المعاني وتتعدى بها كما تتعدى نفوس أهل الوسوسة بالوسواس ، فتصير المعاني عوضاً عن حديث النفس ، تنوب في القلب عن جميع الوسواس ، وتبقى الروح مجرد تنازلها أحوال العظمة والكبرياء والجمال والجلال والبهاء“.
أقول: الفقرة الأخيرة من كلامه قد تستغرب غير أنه مسبوق بشيخه شيخ الإسلام، فقال شيخ الإسلام في أجوبة الاعتراضات المصرية على الفتوى الحموية ص28:
“ولهذا ذمَّ العلماء، الراسخون والمؤمنون الصادقون من اقتصر في إعجاز القرآن على ما فيه من الإعجاز من جهة لفظه أو تأليفه أو أسلوبه. وقالوا: هذا وإن كان معجزًا فنسبته إلى ما في معانيه من الإعجاز نسبة الجسد إلى الروح، ومحاسن الخَلْق إلى محاسنِ الخُلُق، وهو يُشبِهُ مَن عظَّم النبي صلى الله عليه وسلم بمحاسنِ خَلْقِه وبدنِه، ولم يعلم ما شرَّف الله به قلبَه الذي هو أشرفُ القلوب ونفسَه التي هي أزكى النفوس، من الأمور التي تَعجزُ القلوبُ والألسنةُ عن كمال معرفتها وصفتها.
كما قال ابن مسعود: «إنّ الله نظَر في قلوبِ العباد، فوجدَ قلبَ محمدٍ خيرَ القلوب، فاصطفاه لرسالته، ثم نظر في قلوب أصحابِه بعد قلبِه، فوجدَ قلوبهم خيرَ القلوب، فاختارهم لصحبة نبيِّه وإقامةِ دينِه»“
أقول: ولكلام ابن شيخ الحزاميين بقية تكلم فيها على شهود صفة العلم والسمع والبصر والقيومية والإرادة والمحبة من أراده فليراجعه، وكلامه نفيس غاية ولا يدفعه إلى مكابر فخطورة التعطيل على القلوب أعظم من خطورة القاتل على النفوس والسارق على الأموال فإن أعظم ما في هذه الدنيا عبادة الله عز وجل على علمٍ به والتعطيل هو الجهل بالله عز وجل وإن سموه تنزيهاً.
ولهذا لما تكلم بعض المعطلة في السلوك كان حاله كما وصف ابن تيمية في النبوات حيث قال : ولهذا ذاكرني مرة شيخ جليل له معرفة، وسلوك، وعلم في هذا، فقال: كلام أبي حامد يشوقك، فتسير خلفه، منزلاً بعد منزل، فإذا هو ينتهي إلى لا شيء.