كلام لطيف للقرطبي في قوله تعالى : ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون )

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:


قال القرطبي في تفسيره (2/202) :”
” وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ”.

 فحواس الإنسان أشرف من الكواكب
المضيئة، والسمع والبصر منها بمنزلة الشمس والقمر في إدراك المدركات بها.

 وأعضاؤه تصير عند البلى ترابا
من جنس الأرض، وفية من جنس الماء العرق وسائر رطوبات البدن، ومن جنس الهواء فيه الروح
والنفس، ومن جنس النار فيه المرة الصفراء. وعروقه بمنزلة الأنهار في الأرض، وكبده بمنزلة
العيون التي تستمد منها الأنهار.

 لان العروق تستمد من الكبد. ومثانته
بمنزلة البحر، لانصباب ما في أوعية البدن إليها كما تنصب الأنهار إلى البحر. وعظامه
بمنزلة الجبال التي هي أوتاد الأرض. وأعضاؤه كالأشجار.

 فكما أن لكل شجر ورقا وثمرا فكذلك
لكل عضو فعل أو أثر. والشعر على البدن بمنزلة النبات والحشيش على الأرض.

 ثم إن الإنسان يحكى بلسانه كل
صوت حيوان، ويحاكي بأعضائه صنيع كل حيوان، فهو العالم الصغير مع العالم الكبير مخلوق
محدث لصانع واحد، لا إله إلا هو”

وهذا كلام لطيف حسن قد روي بعض معناه عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم

قال الطبري في تفسيره (22/419) : حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال:
قال ابن زيد، في قوله( وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ) ، وقرأ قول الله تبارك
وتعالى( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ
تَنْتَشِرُونَ ) قال: وفينا آيات كثيرة، هذا السمع والبصر واللسان والقلب، لا يدري
أحد ما هو أسود أو أحمر، وهذا الكلام الذي يتلجلج به، وهذا القلب أيّ شيء هو، إنما
هو مضغة في جوفه، يجعل الله فيه العقل، أفيدري أحد ما ذاك العقل، وما صفته، وكيف هو.

وقال ابن الجوزي في التبصرة ص67 :” وَجَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ مِنْ
آثَارِ قُدْرَتِهِ.

وَأَعْجَبُ آثَارِهِ الآدَمِيُّ , فَإِنَّكَ إِذَا تَفَكَّرْتَ فِي نَفْسِكَ
كَفَى , وَإِذَا نَظَرْتَ فِي خَلْقِكَ شَفَى. أَلَيْسَ قَدْ فَعَلَ فِي قَطْرَةٍ
[مِنْ] مَاءٍ مَا لَوِ انْقَضَتِ الأَعْمَارُ فِي شَرْحِ حِكْمَتِهِ مَا وَفَتْ!

كَانَتِ النُّقْطَةُ مَغْمُوسَةً فِي دَمِ الْحَيْضِ , وَمِقْيَاسُ الْقُدْرَةِ
يَشُقُّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ , خلق منها ثلاثمائة وستين عظماً وخمسمائة وَتِسْعًا
وَعِشْرِينَ عَضَلَةً , كُلُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ تَحْتَهُ حِكْمَةٌ , فَالْعَيْنُ
سَبْعُ طَبَقَاتٍ , وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ عَضَلَةً لِتَحْرِيكِ حَدَقَةِ الْعَيْنِ
, وَأَجْفَانِهَا , لَوْ نَقَصَتْ مِنْهَا وَاحِدَةٌ لاخْتَلَّ الأَمْرُ , وَأَظْهَرَ
فِي سَوَادِ الْعَيْنِ عَلَى صِغَرِهِ صُورَةَ السَّمَاءِ مَعَ اتِّسَاعِهَا , وَخَالَفَ
بَيْنَ أَشْكَالِ الْحَنَاجِرِ فِي الأَصْوَاتِ , وَسَخَّرَ الْمَعِدَةَ لإِنْضَاجِ
الْغِذَاءِ , وَالْكَبِدَ لإِحَالَتِهِ إِلَى الدَّمِ , وَالطِّحَالَ لِجَذْبِ السَّوْدَاءِ
وَالْمَرَارَةَ لِتَنَاوُلِ الصَّفْرَاءِ [كُلُّهَا] وَالْعُرُوقُ كَالْخَدَمِ لِلْكَبِدِ
تَنْفُذُ مِنْهَا الدِّمَاءُ إِلَى أطراف البدن.

فيا أيها الْغَافِلُ مَا عِنْدَكَ خَبَرٌ مِنْكَ , فَمَا تَعْرِفُ مِنْ
نَفْسِكَ إِلا أَنْ تَجُوعَ فَتَأْكُلَ

وَتَشْبَعَ فَتَنَامَ , وَتَغْضَبَ فَتُخَاصِمَ , فَبِمَاذَا تَمَيَّزْتَ
عَلَى الْبَهَائِمِ!”

أما لو كان كل كلام القرطبي وابن الجوزي من هذا الضرب ولم يتورطا فيما تورطا فيه البدع والضلالات لكانا من أئمة الإسلام 

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم