فقد قال عبد الرزاق في مصنفه، (20368) قال أخبرنا معمر عن علي بن بذيمة
عن يزيد بن الأصم عن بن عباس قال :
قدم على عمر رجل فجعل عمر يسأله عن الناس فقال يا أمير المؤمنين قد قرأ
منهم القرآن كذا وكذا
فقال بن عباس فقلت والله ما أحب
أن يتسارعوا يومهم هذا في القرآن هذه المسارعة
قال فزبرني عمر ثم قال: مه قال
فانطلقت إلى أهلي مكتئبا حزينا فقلت قد كنت نزلت من هذا الرجل منزلة فلا أراني إلا
قد سقطت من نفسه
قال فرجعت إلى منزلي فاضطجعت على فراشي حتى عادني نسوة أهلي وما بي وجع
وما هو إلا الذي تقبلني به عمر
قال فبينا أنا على ذلك أتاني رجل فقال أجب أمير المؤمنين قال خرجت فإذا
هو قائم ينتظرني قال فأخذ بيدي ثم خلا بي فقال ما الذي كرهت مما قال الرجل آنفا قال
فقلت يا أمير المؤمنين إن كنت
أسأت فإني استغفر الله وأتوب إليه وأنزل حيث أحببت
قال لتحدثني بالذي كرهت مما قال
الرجل فقلت يا أمير المؤمنين متى ما تسارعوا هذه المسارعة يحيفوا ومتى ما يحيفوا يختصموا
ومتى ما يختصموا يختلفوا ومتى ما يختلفوا يقتتلوا
فقال عمر لله ابوك لقد كنت أكاتمها الناس حتى جئت بها.
قلت : هذا الأثر رجاله ثقات غير أن معمراً في روايته عن أهل الكوفة كلام
، وهذا موقوف يحتمل فيه مثل هذا، والإمام أحمد قد احتج بهذا الأثر في رسالته للمتوكل
وهذه الرسالة رواها أبو نعيم في
الحلية (9/216) حدثنا سليمان بن أحمد -وهو الطبراني- ثنا عبدالله بن احمد بن حنبل ح
وحدثنا محمد بن علي أبو الحسين قالوا ثنا محمد بن إسماعيل ثنا صالح بن احمد بن حنبل
بها، وفيها حكاية الإمام أحمد لهذا الأثر جازماً بنسبته لابن عباس
والإمام أحمد كان يتكلم عن مسألة (خلق القرآن) وهذا المقام لا يحتمل الاحتجاج
بالضعيف، فهذا يدل على أن هذا الأثر ثابت عند الإمام أحمد -والله أعلم-.
وفي هذا الأثر عبرة للذين يقيمون الدورات للحفظ السريع للقرآن وترى صور
الحفظة على المساجد، فهذا حفظ القرآن في أسبوعين !وهذا حفظه في شهر ! وهذا في ثلاثة
! -والله أعلم بحقيقة الأمر-
وهذا بعيدٌ كل البعد عن هدي السلف
الذين كانوا يجمعون بين الحفظ والفقه فلا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموا فقهها، ويتأنون
تمام التأني في حفظ كتاب الله عز وجل لأنه أصل العلوم
فينبغي أن يكون راسخاً في القلب
لترسخ بقية العلوم، وبعضهم يفاضل بين ما لا يتفاضل فيقول :” أيهما مقدم حفظ كتاب
الله أم طلب العلم ؟!”، والحق أن ينبغي الجمع بين الأمرين فيحفظ كتاب الله عز
وجل بتأني وطلب العلم بتأني فمن رام العلم جملة ذهب عنه جملة.
وما أقبح الرجل يحفظ عشرين جزءً ولا يفرق بين السنة والبدعة بل ولا يفرق
بين الكفر والتوحيد
قال الطبري في تفسيره (التفسير
11/140 ح 12854): حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر وأبو عاصم قالا: حدثنا
عوف، عن سوّار بن شبيب قال:
كنت عند ابن عمر، إذ أتاه رجل
جليد في العين، شديد اللسان، فقال: يا أبا عبد الرحمن نحن ستة كلهم قد قرأ القرآن فأسرع
فيه، وكلهم مجتهد لا يألوا، وكلهم بغيض إليه أن يأتي دناءة، وهم في ذلك يشهد بعضهم
على بعض بالشرك!
فقال رجل من القوم: وأي دناءة
تريد أكثر من أن يشهد بعضهم على بعض بالشرك!
قال: فقال الرجل: إني لست إياك أسأل أنا أسأل الشيخ، فأعاد على عبد الله
الحديث
فقال عبد الله بن عمر: لعلك ترى
-لا أبا لك- أني سآمرك أن تذهب أن تقتلهم! عظهم وانههم، فإن عصوك فعليك بنفسك، فإن
الله تعالى يقول: ﴿يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى
الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تعملون﴾
ورجاله ثقات وإسناده صحيح.
وهؤلاء الذين حكي لابن عمر حالهم ، قد وقعوا فيما تخوف منه ابن عباس ،
من المسارعة في حفظ القرآن دون تفقه، فالقرآن أنزل ليتدبره أهل الإيمان فيؤمنوا بأخباره
ويعملوا بأوامره ويتركوا نواهيه، قال الله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ
لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾، والحفظ وسيلةٌ معينة
على التدبر لا غاية
وطالب العلم والمفتي ينبغي أن
يكون حافظاً للأدلة الشرعية من الكتاب والسنة ليفتي الناس على بصيرة بعد أن يعمل بها
-هو نفسه- على بصيرة.
قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة (1/74) : “الوجه الخامس والخمسون
ما ثبت في صحيح البخاري من حديث عثمان بن عفان رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه
و سلم انه قال خيركم من تعلم القرآن وعلمه وتعلم القرآن وتعليمه يتناول تعلم حروفه
وتعليمها وتعلم معانيه وتعليمها وهو اشرف قسمي علمه وتعليمه فإن المعنى هو المقصود
واللفظ وسيلة اليه فنعلم المعنى وتعليمه تعلم الغاية وتعليمها وتعلم اللفظ المجرد وتعليمه
تعلم الوسائل وتعليمها وبينهما كما بين الغايات والوسائل”.
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم