قال النووي في رسالته الأصول والضوابط ص24
:” مَسْأَلَة
مَذْهَب اهل الْحق الايمان بِالْقدرِ
واثباته وان جَمِيع الكائنات خَيرهَا وشرها بِقَضَاء الله تَعَالَى وَقدره
وَهُوَ مُرِيد لَهَا كلهَا
وَيكرهُ الْمعاصِي مَعَ انه مُرِيد لَهَا
لحكمة يعلمهَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
وَهل يُقَال انه يرضى الْمعاصِي ويحبها
فِيهِ مذهبان لاصحابنا الْمُتَكَلِّمين
حَكَاهُمَا امام الْحَرَمَيْنِ وَغَيره
قَالَ امام الْحَرَمَيْنِ فِي الارشاد
مِمَّا اخْتلف اهل الْحق فِي اطلاقه وَمنع اطلاقه الْمحبَّة وَالرِّضَا
فَقَالَ بعض أَئِمَّتنَا لَا يُطلق
القَوْل بَان الله تَعَالَى يحب الْمعاصِي ويرضاها لقَوْله تَعَالَى {وَلَا يرضى
لِعِبَادِهِ الْكفْر}
قَالَ وَمن حقق من أَئِمَّتنَا لم يلْتَفت
الى تهويل الْمُعْتَزلَة لَهُ بل قَالَ الله تَعَالَى يُرِيد الْكفْر وَيُحِبهُ
ويرضاه والارادة والمحبة وَالرِّضَا بِمَعْنى وَاحِد
قَالَ وَقَوله تَعَالَى {وَلَا يرضى
لِعِبَادِهِ الْكفْر} المُرَاد بِهِ الْعباد الموفقون للايمان وأضيفوا الى الله
تَعَالَى تَشْرِيفًا لَهُم كَقَوْلِه تَعَالَى {يشرب بهَا عباد الله} أَي خواصهم
لَا كلهم وَالله اعْلَم”
أقول : مذهب أهل الحق الذي عناه النووي هو
مذهب أصحابه الجهمية الأشعرية الجبرية
وهذا المذهب في أن يحب الكفر والفسوق
والعصيان فيه من الضلال وسوء الأدب مع رب العالمين الشيء العظيم
وذلك أن القوم جبرية ورثوا إمامهم الأول
الجهم بن صفوان في هذا الباب ، لا يفرقون بين الإرادة الشرعية التي تستلزم المحبة
، والإرادة الكونية التي تستلزم الوقوع ولا تستلزم المحبة
وقد صرح ابن تيمية بأن قولهم يخالف دين
الإسلام بالاضطرار
قال شيخ الإسلام في شرح الأصبهانية ص13
:” وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام وبإجماع سلف الأمة قبل حدوث أقوال
النفاة من الجهمية ونحوهم إن الله يحب الإيمان والعمل الصالح ولا يحب الكفر
والفسوق والعصيان وإنه يرضى هذا ولا يرضى هذا والجميع بمشيئته وقدرته والذين لم
يفرقوا لهم تأويلات تارة يقولون لا يرضاه لعباده المؤمنين فهم يقولون لا يحب
الإيمان والعمل الصالح ممن لم يفعله كما لم يرده ممن لم يفعله ويقولون إنه يحب
الكفر والفسوق والعصيان ممن فعله كما أراده ممن فعله.
وفساد هذا القول مما يعلم بالاضطرار من
دين الإسلام مع دلالة الكتاب والسنة وإجماع السلف على فساده وتأويلهم الثاني قالوا:
لا يرضاه دينا كما يقولون لا يريده دينا ومعناه عندهم أنه لا يريد أن يثبت فاعله
إذ جميع الموجودات والأفعال عندهم بالنسبة إليه سواء لا يحب منها شيئا دون شيء ولا
يبغض منها شيئا دون شيء وقد بسط الكلام على فساد
هذا القول وتناقضه في مواضع أخر”
وقال في النبوات في ص287 :” وحقيقة
هذا القول أنّ الله يُحبّ الكفر، والفسوق، والعصيان، ويرضاه. وهذا هو المشهور من
قول الأشعريّ وأصحابه، وقد ذكر أبو المعالي أنه أول من قال ذلك، وكذلك ذكر ابن
عقيل أنّ أوّل من قال إن الله يحب الكفر والفسوق والعصيان هو الأشعريّ وأصحابه،
وهم قد يقولون لا يُحبّه ديناً، ولا يرضاه ديناً، كما يقولون: لا يريده ديناً؛ أي
لا يريد أن يكون فاعله مأجوراً، وأما هو نفسه فهو محبوب له كسائر المخلوقات؛
فإنّها عندهم محبوبة له؛ إذ كان ليس عندهم إلا إرادة واحدة
شاملة لكل مخلوق؛ فكل مخلوق، فهو عندهم
محبوب مرضيّ .
وجماهير المسلمين يعرفون أنّ هذا القول
معلوم الفساد بالضرورة من دين أهل الملل، وأنّ المسلمين واليهود والنصارى متفقون
على أنّ الله لا يُحبّ الشرك، ولا تكذيب الرسل، ولا يرضى ذلك، بل هو يُبغض ذلك
ويمقته ويكرهه؛ كما ذكر الله في سورة بني إسرائيل ما ذكره من المحرّمات، ثمّ قال: {كُلُّ
ذَلِكَ كَاْنَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوْهَاً}. وبسط هذه الأمور له مواضع
أُخَر”
فقولهم هذا مخالف للمعلوم من الدين
بالضرورة بل مخالف لما عليه اليهود والنصارى أيضاً
فهذا قول كفري كقولهم في إنكار العلو
وقد نص ابن تيمية على أن قولهم في القدر
شر من قول المعتزلة
وهذا يبين عند التأمل فإنه لا يوجد في
رواة الحديث من هو جبري فليس في الكتب من جبري مع وجود القدري والخارجي والمرجيء
والشيعي
وذلك أن مذهب الجبرية إنما يعرف به أهل
الانحلال ولهذا لا تجد عابداً في المتكلمين وإنما تجد ( دراويش ) وشيوخ طريقة
فمن اجتمع فيه التجهم والإرجاء والجبر
كالأشاعرة فقد اجتمع فيه الشر كله
وهذا يبين لك وجهاً جديداً في حقيقة
الخلاف مع الأشاعرة
وهو أن تعتقد في الأشعري أنه إلى جانب
اعتقاده في القرآن اعتقاداً أربى فيه على المعتزلة ، واعتقاده في العلو اعتقاداً
شراً من اعتقاد الجهمية ، فقد اعتقد في القدر عقيدة هي شر من عقيدة المعتزلة
فهل مثل هذا يكون إماماً أو سنياً أو محنة
؟
وهل من نشر مثل هذه العقائد الخطيرة في
الأمة يقال أنه ( خدم الإسلام ) كذا بإطلاق
وماذا عن الضرر العظيم الذي سببه للناس جراء هذه
العقائد الخبيثة وتخليدها في الكتب؟
ومن أنكر كفراً ثم لم يتبرأ من أهله فقد خالف طريقة الأنبياء في الإنكار وجاء إنكاره ضعيفاً لا يفي بالغرض بل يكون فيه متنفس لأهل الباطل
وليعلم أن ضلال الأشاعرة في باب القدر
محصور في نقاط
الأولى : نفي التحسين والتقبيح العقليين
الثانية : نفي تأثير الأسباب
الثالثة : نفي قدرة العبد التي تسبق الفعل
وتصريح الأشعري في الإبانة أن الكافر غير قادر على الإيمان
الرابعة : تصريحهم بأن الله يحب الكفر
والفسوق والعصيان وخلطهم بين الإرادة الكونية والشرعية
الخامسة : نفي الحكمة والتعليل وقد نص
الإمام المجدد أن الوثنيين لا ينفون حكمة الله
وهذه الضلالات تجدها في كتب التفسير وشروح
الحديث التي صنفها الأشاعرة ، وكثير منهم مع علمه بالحديث يقلد الجويني والغزالي
في أمر العقيدة كما ترى في صنيع النووي السابق
وكثير مما صنفوه في الأصول لا يذكرون فيه
إلا مقالة المعتزلة القدرية ومقالتهم أصحابهم الجبرية ولا يذكرون شيئاً من كلام
أهل السنة
وإنك لترى شماطيط المتكلمين جنباً إلى جنب
مع النصوص الشرعية والآثار السلفية ، ومما يزيد في غيظك أنه يرجح كلام المتكلمين
في النهاية
والإنصاف أن يقال بأن الجاهل بالحديث أعذر
من العالم به لا العكس الفاشي في مذهب الخلوف
ولا عذر لأحد من هؤلاء المتكلمين في تلك
الضلالات العظيمة التي أعرضوا عن الكتاب والسنة واعتقدوها بنتاج عقولهم الفاسدة
قال العقيلي في الضعفاء :” عوف بن
أبي جميلة الأعرابي حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثنا محمد بن أبي بحر المقدم قال : سمعت
عمرو بن علي يقول : رأيت عبد الله بن المبارك يقول لجعفر بن سليمان : رأيت أيوب
وابن عون ويونس فكيف لم تجالسهم وجالست عوفا ؟ والله ما رضي عوف ببدعة واحدة حتى
كانت فيه بدعتان : كان قدريا وكان شيعيا حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثنا أبو
الربيع الزهراني ، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال : رأيت داود بن أبي هند
يضرب عوفا الأعرابي يقول : ويلك يا قدري ، ويلك يا قدري حدثنا محمد بن أحمد قال : سمعت
بندارا ، وهو يقرأ علينا حديث عوف فقال : يقولون : عوف ، والله لقد كان عوف قدريا
رافضيا شيطان”
عوف هذا ثقة ثبت وروى سنة كثيرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم والكثير من أخبار الصالحين ولا شك أن في هذا خدمة للإسلام ومع
ذلك يقال فيه هذا الكلام الشديد ،إذا استحضرت بأن بدعة الأشاعرة في نفي الصفات كفر
في صفة العلو وحدها فكيف مع بقية الصفات وأن السلف تكلموا في تكفيرهم ما لم
يتكلموا في تكفير غيرهم ، وإذا استحضرت أن مذهب الجبرية أخبث من مذهب القدرية
علمت حال الخلوف ومناقضة منهجهم لمنهج
السلف مناقضة تامة توقعهم في هوة الابتداع السحيقة
وعوف ما صنف شيئاً في نصرة المذكورة ولا
ناظر على ذلك وما خلد كتباً ينصر فيها شبهات القوم
ومن ظن أن السلف لم يخلفوا لنا ديناً
نقتدي به ونفهمه حتى احتجنا إلى من تلطخ بضلالات المتكلمين الكبرى فقد أساء الظن
بالله عز وجل ورد على النبي صلى الله عليه وسلم قوله بأن خير الناس قرنه ثم الذين
يلونهم ثم الذين يلونهم
تنبيه : بلغني أن هناك من يصف اعتقاد النووي في شرحه لمسلم في باب القدر أنه على طريقة أهل السنة
وهذا باطل لكل من نظر في الكتاب فإنه سار في ذلك على طريقة المتكلمين كما صنع في باب الصفات
قال النووي في شرح مسلم (7/327) :” قالَ الْمَازِرِيّ : وَهَذَا غَيْر مُسَلَّم لِأَنَّا بَيَّنَّا فِي كُتُب عِلْم الْكَلَام أَنَّ لَا فَاعِل إِلَّا اللَّه تَعَالَى ، وَبَيَّنَّا فَسَاد الْقَوْل بِالطَّبَائِعِ ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْمُحْدِث لَا يَفْعَل فِي غَيْره شَيْئًا ، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا بَطَل مَا قَالُوهُ”
ولم يعقب على هذا الكلام بشيء بل أقره وهذا جبر له قرون ( ولا فاعل إلا الله ) هو توحيد الجبرية كما يصفه ابن القيم
وقال أيضاً في (7/328) :” قَالَ الْمَازِرِيّ : وَاخْتَلَفَ النَّاس فِي الْقَدْر الَّذِي يَقَع بِهِ السِّحْر ، وَلَهُمْ فِيهِ اِضْطِرَاب ، فَقَالَ بَعْضهمْ : لَا يَزِيد تَأْثِيره عَلَى قَدْر التَّفْرِقَة بَيْن الْمَرْء وَزَوْجه ؛ لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى إِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ تَعْظِيمًا لِمَا يَكُون عِنْده ، وَتَهْوِيلًا بِهِ فِي حَقّنَا ، فَلَوْ وَقَعَ بِهِ أَعْظَم مِنْهُ لَذَكَرَهُ ، لِأَنَّ الْمَثَل لَا يُضْرَب عِنْد الْمُبَالَغَة إِلَّا بِأَعْلَى أَحْوَال الْمَذْكُور قَالَ : وَمَذْهَب الْأَشْعَرِيَّة أَنَّهُ يَجُوز أَنْ يَقَع بِهِ أَكْثَر مِنْ ذَلِكَ . قَالَ : وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح عَقْلًا لِأَنَّهُ لَا فَاعِل إِلَّا اللَّه تَعَالَى ، وَمَا يَقَع مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ عَادَة أَجْرَاهَا اللَّه تَعَالَى ، وَلَا تَفْتَرِق الْأَفْعَال فِي ذَلِكَ”
قال ابن القيم في النونية
فالجبر يشهدك الذنوب جميعها ***مثل ارتعاش الشيخ ذي الرجفان
لا فاعل أبدا ولا هو قادر*** كالميت أدرج داخل الأكفان
والأمر والنهي اللذان توجها*** فهما كأمر العبد بالطيران
وقال أيضاً في (1/131) :” وَقَدْ تَطَابَقَ عَلَى وُجُوب الْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَر الْكِتَاب وَالسُّنَّة وَإِجْمَاعُ الْأُمَّة وَهُوَ أَيْضًا مِنْ النَّصِيحَة الَّتِي هِيَ الدِّين . وَلَمْ يُخَالِف فِي ذَلِكَ إِلَّا بَعْض الرَّافِضَة ، وَلَا يُعْتَدّ بِخِلَافِهِمْ كَمَا قَالَ الْإِمَام أَبُو الْمَعَالِي إِمَام الْحَرَمَيْنِ : لَا يُكْتَرَث بِخِلَافِهِمْ فِي هَذَا ، فَقَدْ أَجْمَع الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ قَبْل أَنْ يَنْبُغ هَؤُلَاءِ . وَوُجُوبه بِالشَّرْعِ لَا بِالْعَقْلِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ”
وقال هذا في التوبة أيضاً وغيرها وهذه طريقة الأشعرية الجبرية في نفي التحسين والتقبيح العقليين
وقال أيضاً في (9/230) :” قَدْ سَبَقَ مَرَّات بَيَان أَنَّ الظُّلْم مُسْتَحِيل فِي حَقّ اللَّه تَعَالَى ، فَمَنْ عَذَّبَهُ بِذَنْبٍ أَوْ بِلَا ذَنْب فَذَلِكَ عَدْل مِنْهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى”
وهذه عقيدة الأشعرية بأن الظلم ممتنع في حق الله بمعنى أنه لو فعل الظلم لصار عدلاً لأنه هو فعله فلا فرق بين التوحيد والشرك سوى أن الله أمر بهذا ونهى عن هذا ، ولا فرق بين الزنا والنكاح إلا هذا
وقد قال الله تعالى : ( إن الله لا يأمر الفحشاء )
فجعل علامة كذب المشركين على الله أنهم ينسبون له الفحشاء وهو سبحانه لا يأمر بالفحشاء وعلى مذهب القوم يجوز عليه ذلك
والخبر الوارد في أن الله عز وجل لو عذب الجن والإنس لعذبهم غير ظالم ليس من هذا الباب بل بابه أنه سبحانه لو وضعت نعمه مقابل أعمال عباده فلا ينجو إلا من كافأ عمله نعم الله لما نجا أحد وهذا معنى الخبر ( لن يدخل الجنة أحد بعمله )
وهذا المذهب الأشعري لما تكلم به السفاريني أنكر عليه أئمة الدعوة
وقد بسط ابن القيم في مفتاح دار السعادة الكلام على هذه المسألة فليراجع فإنه نفيس
وقال النووي في شرح مسلم (1/243) :” فَلِهَذَا رَأَوْهُ مِنْ قِبَل مَا لَا يُطَاق . وَعِنْدَنَا أَنَّ تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق جَائِز عَقْلًا ، وَاخْتُلِفَ هَلْ وَقَعَ التَّعَبُّد بِهِ فِي الشَّرِيعَة أَمْ لَا ؟ وَاَللَّه أَعْلَم”
وهذا مذهب الأشعرية الجبرية أيضاً
وقال النووي في شرح مسلم (8/116) :” وَهَذَا عَلَى أَصْل أَهْل السُّنَّة أَنَّ الْعَبْد لَا قُدْرَةَ لَهُ إِلَّا مَا أَرَادَهُ اللَّه تَعَالَى ، وَيَسَّرَهُ لَهُ ، وَخَلَقَهُ لَهُ”
وهذا قد يظن الجاهل أنه كلام سليم ولكنه كلام جبرية فإن عندهم أن العاصي غير قادر على الطاعة والكافر غير قادر على الإسلام لأنه لم يقدر له ، وقد صرح الأشعري بهذا الجبر في الإبانة
وافتتان الناس بكلام هؤلاء الجبرية في القدر أكثر من افتتانهم بتجهمهم في مسائل الصفات لأن مسائل الصفات أوضح الواضحات ، وأما هذه فيكثرون فيها التلبيس
ومن ادعى في هذه المذاهب أنها مذاهب أهل السنة فقد وقع في الجبر من حيث لا يشعر ، وقد قدمت لك ذكر كلام النووي في الأصول والضوابط وهو جبر صريح
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه
وسلم