فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :” لا يقص إلا أميرٌ أو مأمورٌ
أو مختالٌ”. رواه أبو داود من حديث عوف بن مالك
في هذا الحديث حقيقة ينبغي أن يتنبه لها طلبة العلم ، وهو أن من يقص لا
بد له من فقه فالأمير يعني الفقيه – كما فسره بعض شراح الحديث –
فمن يقص لا بد له من معرفة بعلم الحديث لئلا يقص على الناس الواهيات
ولا بد له من فقه لكي لا يثني على أمرٍ مخالفٍ للشرع
قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة (1/89) :” وقال بعض السلف ان
الفقيه من لم يقنط الناس من رحمة الله ولم يؤمنهم مكر الله ولم يدع القرآن رغبة عنه
إلى ماسواه “
قلت : اثنتان من هذه الثلاث يظنها البعض من خصائص الوعاظ والسلف اعتبروها
من خصائص الفقيه لأنه من شرط الواعظ عندهم أن يكون فقيهاً وتأمل الخصلة الأخيرة فإنها
الفيصل بين الواعظ السني وغيره
علماً بأنه ليس من منهج السلف في الدعوة الإشتغال بالقصص وترك العقيدة
والمنهج بل إن طالب العلم إذا سلك هذه الجادة تلاشت شخصيته العلمية شيئاً فشيئاً حتى
ينمسخ
وهنا مثالان يوضحان المراد مما سبق
المثال الأول : قال ابن عساكر في تاريخ دمشق (70 / 140 ) :
” قرأت على أبي منصور بن خيرون عن أبي محمد الجوهري أنا أبو عمر بن
حيوية أنا محمد بن خلف بن المرزبان أخبرني أحمد بن حرب أخبرني الزبير بن أبي بكر حدثني
يحيى بن محمد بن عبد الله بن ثوبان قال نظرت نائلة بنت الفرافصة امرأة عثمان بن عفان
في المرآة فأعجبها ثغرها فأخذت فهرا فكسرت ثناياها وقالت والله لا يجتنيكن أحد بعد
عثمان ثم إن معاوية بن أبي سفيان خطبها فأبت عليه وأنشأت تقول : أبى الله إلا أن تكوني
غريبة بيثرب لا تلقين أما ولا أبا
أخبرنا أبو سعد بن البغدادي أنا أبو عمرو بن مندة أنا الحسن بن محمد بن
أحمد أنا أحمد بن محمد بن عمر نا ابن أبي الدنيا أخبرني العباس بن هشام بن محمد عن
أبيه عن أبي عمران العنزي عن محمد بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن
الخطاب قال :
خطب نائلة بنت الفرافصة قوم من
قريش بعد موت عثمان فدعت بمرآة فنظرت فيها وكانت من أحسن الناس ثغرا فأخذت فهرا فدقت
به أسنانها فسال الدم على صدرها فبكى جواريها وقلن لها ما صنعت بنفسك
قالت إني رأيت الحزن يبلى كما
يبلى الثوب وإني خفت أن يبلى حزني على عثمان فيطلع مني رجل على ما اطلع عثمان وذلك
ما لا يكون أبدا
وهي التي قالت : أبى الله إلا أن تكوني غريبة * بيثرب لا تلقين أما ولا
أبا “
قلت : هذه القصة يذكرها بعض الوعاظ والخطباء حثاً على الوفاء !!
وما ينبغي لعاقل أن يثني على ما جاء في هذه القصة ، لأن تكسير الأعضاء
مما لم يأذن به الله ، وليس من الوفاء الواجب أو المستحب ترك الزواج بعد وفاة الزوج
فكثيرٌ من الصحابيات تزوجن بعد أزواجهن وفي ذلك من الخير ما لا يخفى على من رزقه فقهاً
وعلماً
كما أن هذه القصة لا تثبت فيها هشام بن محمد الكلبي ووالده كلاهما رافضي
متروك
وأما السند الأول ففيه يحيى بن محمد بن عبد الله بن ثوبان لم أعرفه ويبدو
أن خبره معضل فهو يروي عن عكرمة بواسطة فالظاهر أنه لم يدرك التابعين صغارهم وكبارهم
_ كما في الإستيعاب لابن عبد البر (1/171) _
وعليه فإن القصة ساقطة !!
المثال الثاني : قال البيهقي في شعب الإيمان 1590 – أخبرنا أبو الحسين
محمد بن الفضل القطان ، أخبرنا أبو سهل بن زياد القطان ، حدثنا سعيد بن عثمان الأهوازي
، حدثنا عبد الله بن معاوية الجمحي ، وأخبرنا أبو نصر عمر بن عبد العزيز بن عمر بن
قتادة ، أخبرنا أبو محمد يحيى بن منصور القاضي ، حدثنا أبو الفضل أحمد بن سلمة ، حدثنا
عبد الله بن معاوية الجمحي ، حدثنا عبد العزيز بن مسلم القسملي ، حدثنا ضرار بن عمرو
، عن أبي رافع ، قال :
“وجه عمر بن الخطاب رضي الله
عنه جيشا إلى الروم ، وفيهم رجل يقال له عبد الله بن حذافة من أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم ، فأسره الروم فذهبوا به إلى ملكهم ، فقالوا : إن هذا من أصحاب محمد
فقال له الطاغية : هل لك أن تتنصر
وأشركك في ملكي وسلطاني ؟
فقال له عبد الله : « لو أعطيتني
جميع ما تملك ، وجميع ما ملكته العرب – وفي رواية القطان : وجميع مملكة العرب – على
أن أرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم طرفة عين ، ما فعلت
قال : إذا أقتلك ، قال : « أنت
وذاك » ، قال : فأمر به فصلب ، وقال للرماة : ارموه قريبا من يديه قريبا من رجليه وهو
يعرض عليه ، وهو يأبى ، ثم أمر به فأنزل ، ثم دعا بقدر وصب فيها ماء حتى احترقت ، ثم
دعا بأسيرين من المسلمين ، فأمر بأحدهما فألقي فيها وهو يعرض عليه النصرانية وهو يأبى
، ثم أمر به أن يلقى فيها ، فلما ذهب به بكى ، فقيل له : إنه بكى فظن أنه رجع ، فقال
: ردوه فعرض عليه النصرانية فأبى ، قال : فما أبكاك ؟ قال : أبكاني أني
قلت هي نفس واحدة تلقى هذه الساعة في هذا القدر فتذهب ، فكنت أشتهي أن يكون بعدد كل
شعرة في جسدي نفس تلقى هذا في الله عز وجل
قال له الطاغية : هل لك أن تقبل
رأسي وأخلي عنك ؟ قال عبد الله : « وعن جميع أسارى المسلمين ؟ » قال : وعن جميع أسارى
المسلمين ، قال عبد الله : « فقلت في نفسي عدو من أعداء الله أقبل رأسه ويخلي عني وعن
أسارى المسلمين لا أبالي قال فدنا منه وقبل رأسه » ، فدفع إليه الأسارى ، فقدم بهم
على عمر فأخبر عمر بخبره ، فقال : حق على كل مسلم أن يقبل رأس عبد الله بن حذافة ،
وأنا أبدأ فقام عمر فقبل رأسه “
قلت : هذه القصة مشهورة جداً حتى أنني حضرت خطبةً كاملةً في هذه القصة
، وقد ألقى بعض القصاص محاضرةً في هذه القصة أسماها ( قصة بطل )
وهذه القصة ضعيفة جداً ففي سندها ضرار بن عمرو قال فيه البخاري في التاريخ
الكبير :” فيه نظر ” ، وقال ابن عدي في الكامل :” منكر الحديث
” ونقل عن ابن معين قوله :” لا يكتب حديثه ” وهذه كلها جروح شديدة
وعنيت بقولي لا تثبت القصة المطولة وإلا فالقصة لها أصل
جاء في مستدرك الحاكم على لسان مصعب الزبيري 6649 – حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ ثَوْبَانَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلْقَمَةَ بْنَ مُحْرِزٍ عَلَى بَعْثٍ، فَلَمَّا بَلَغْنَا رَأْسَ مَغْزَانَا أَذِنَ لِطَائِفَةٍ مِنَ الْجَيْشٍ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسٍ السَّهْمِيَّ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَكَانَتْ فِيهِ دُعَابَةٌ، فَإِنَّهُ كَانَ يَرْحَلُ نَاقَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ لِيُضْحِكَهُ بِذَلِكَ وَكَانَ الرُّومُ قَدْ أَسَرُوهُ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَأَرَادُوهُ عَلَى الْكُفْرِ فَعَصَمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى أَنْجَاهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْهُمْ»
وهذا إسناد محتمل
وللصيغة المطولة شاهد عند أبي نعيم فيه كذاب
فائدة : هذه القصة _ لو ثبتت _ لكانت دليلاً على جواز تقبيل رأس الفاضل، وفي الباب أدلة أخرى تدل على الجواز
روى ابن أبي الدنيا في الإخوان 153 عن أبي رجاء العطاردي قال : قدمت المدينة
فرأيت عمر يقبل رأس أبي بكر رضي الله عنهما .
قلت : وهذا الخبر ضعيف في سنده الحسن بن ذكوان وهو ضعيف
ثم وجدت ما يدل على مشروعية هذا العمل عند السلف
قال الإمام أحمد في فضائل الصحابة
قثنا سفيان بن عيينة قال نا عبد الكريم يعني الجزري ، عن سعيد بن جبير
قال : « كان ابن عباس يحدثني بالحديث فلو يأذن لي أن أقبل رأسه لقبلت »
هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم