قصة أولها عفة وآخرها عفو…

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

أرسل لي بعض الإخوة أثر عكرمة هذا قال: “قال الله تعالى ليوسف يا يوسف بعفوك عن إخوتك رفعت ذكرك في الذاكرين”.

والأثر في «مكارم الأخلاق» للخرائطي، وفي سنده ضعف قد يحتمل في خبر كهذا.

أعادني هذا الأثر إلى التدبر في سورة يوسف عليه الصلاة والسلام، وأن فضيلة يوسف لم تكن العفو فحسب وإنما العفة أيضاً، فالقصة أولها عفة وآخرها عفو، وإن كانت العفة واجبة وأما العفو ففضل.

ثم لفت نظري التشابه بين مبنى كلمة (عفة) وكلمة (عفو)، وقلت إنه لا بد من علاقة بين الأمرين، فالمباني لها اتصال بالمعاني.

فيبدو والله أعلم أن العفة قهر لشهوة الفرج، والتي يتولد منها ذنوب كثيرة مثل الزنا واللواط والنظر الحرام.

والعفو قهر لوارد الغضب، والذي يتضمن ذنوباً كثيرة إذا أُطلِق كالسب بالباطل والقذف والقتل وغيرها.

ومَن ضبط وارد الشهوة ووارد الغضب فقد تم نُسكه وصار صالحاً لولاية الناس، فإن الإمام العادل يتم عدله بالعفة عن الفروج والأموال، والمقدرة على العفو في محله لئلا يسرف في البطش، ولذلك كان يوسف والياً عادلاً.

وقال البخاري في «الأدب المفرد»: “724- حدثنا آدم قال: حدثنا شعبة قال: حدثنا يزيد بن خمير قال: سمعت سليم بن عامر، عن أوسط بن إسماعيل قال: سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه بعد وفاة النبي ﷺ قال: قام النبي ﷺ عام أول مقامي هذا -ثم بكى أبو بكر- ثم قال: «عليكم بالصدق، فإنه مع البر، وهما في الجنة، وإياكم والكذب، فإنه مع الفجور، وهما في النار، وسلوا الله المعافاة، فإنه لم يؤت بعد اليقين خير من المعافاة، ولا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانا»”.

والمعافاة لها علاقة بالعفة، فالمعافاة أن تسلم من شر الناس ويسلموا من شرك، وهكذا العفيف يسلم منه أعراض الناس ويسلم على عرضه على ما قيل في مجازاة المرء بأهله.

وقد سُميت الصدقة عفواً، ففي قوله تعالى: {خذ العفو} فسَّرها كثيرون بما عفا لك الناس من أموالهم.

وإذا تأمَّلت في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، فستجد معافاة وعفة وعفو.

فالإمام العادل حاله المعافاة، فقد سلم الناس من شره وسلم من شرهم، كما ورد في الحديث: «خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنوهم ويلعنونكم»، وقد يظلم الناس الإمام العادل، ولكنه يسلم أشد السلامة بالعفو كما فعل عثمان.

والاثنان اللذان تحابا في الله حالهما المعافاة، فقد سلم كل واحد منهما من شر الآخر ونال خيره، وتدوم الأخوَّة بالعفو عن زلات الإخوان، وكذا كان حال يوسف عليه الصلاة والسلام.

والذي دعته امرأة ذات مال وجمال حاله العفة.

والذي تصدق بيمينه حتى لا تعلم شماله ما أنفق كانت نفقته صحيحة (العفو) أيْ ما زاد على حاجته وحاجة أهله، فلم يضيِّع حقاً وواسى فقيراً.

وأما المعلَّق قلبه بالمساجد والذي ذكر الله خالياً ففاضت عيناه فهذان لا شك أنهما ما فتئا يسألان العفو من العفو الغفور فنالاه، فالبكاء من خشية الله مبناه الخوف من الذنب والرغبة بالعفو، ولزوم المسجد لزوم لِحِمى الله عز وجل، ولا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه.