قتادة بن دعامة والأشاعرة في ميزان أحمد ابن حنبل وابن تيمية

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

قتادة بن دعامة والأشاعرة في ميزان أحمد ابن حنبل وابن تيمية

من الأمور العجيبة الواقعة في زماننا أنه عند نقاش الكلام عن فرقة كلامية مثل الأشعرية لا يُستدعى سلفهم التاريخي مثل الجهمية أو الجبرية أو المرجئة أو الكلابية أو اللفظية، وإنما تُستدعى بدع أخرى مختلفة.

فيؤتى بمثال قتادة بن دعامة السدوسي فيقال: هو قدري ومع ذلك هو إمام أثنى عليه الإمام أحمد، وبعضهم يقول إن كلام القدرية كفر، ولذلك ينبغي أن يكون كلام الأشعرية كفرًا ومع ذلك منهم أئمة في العلم.

وبغض النظر عن أن النقاش أصلًا عن التبديع، ولا أحد ينفي التبديع عن القدري، فإن كلمة قدري تساوي مبتدع، كما أن كلمة خارجي تعطي المعنى نفسه وكلمة مرجئ تعطي المعنى نفسه.

وبرهان ذلك أن الخطيب البغدادي في الكفاية قال: “باب ما جاء في الأخذ عن أهل البدع والأهواء والاحتجاج برواياتهم: اختلف أهل العلم في السماع من أهل البدع والأهواء كالقدرية والخوارج والرافضة“.

ثم لما ذكر أمثلة على هؤلاء المبتدعة وفساق التأويل على حد قوله ذكر: “عبد الوارث بن سعيد وشبل بن عباد وسيف بن سليمان وهشام الدستوائي وسعيد بن أبي عروبة وسلام بن مسكين، وكانوا قدرية“.

وهؤلاء لا يوجد تنصيص على تبديعهم وإنما يوجد فقط أنهم قدرية.

وأما ثناء الإمام أحمد على شخص معين فهذا لا يعني أنه ليس مبتدعًا، فهو يثني على المرء بما فيه من خير ويذمه بما فيه من شر.

قال العقيلي في الضعفاء: “3373- حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: سمعت أبي يقول: كان عبد العزيز بن أبي رواد رجلًا صالحًا، وكان مرجئًا، وليس هو في التثبت مثل غيره“.

فتأمل كيف أنه ذمه بالإرجاء ومدحه بالعبادة، وكذا فعل مع الحسن بن صالح فقال عنه: صائن لنفسه بالورع، ومع ذلك ذمه لقوله بالسيف، وهاجم الكرابيسي لما دافع عنه كما في شرح علل ابن رجب، فلو قلنا بهذا القياس لم ينف ذلك التبديع عن الأشعرية.

والسؤال هنا: هل تقاس بدعة قتادة (إن ثبتت لأن هناك مَن برَّأه) على بدعة الأشعرية على أصول أحمد وعموم أهل الحديث حتى ابن تيمية؟

الجواب: لا.

فإن الإمام أحمد نفى في غير مناسبة أن يكون القول الذي قاله قتادة كفرًا، فإن القدرية الغلاة ينفون العلم وهؤلاء يكفِّرهم أحمد، والمتوسطة ينفون أن يخلق الله أفعال العباد ، والأخف منهم من يقولون لا يخلق الله الشر، العباد يخلقونه، ويستدلون بـ “والشر ليس إليك”، وهذا قول قتادة ومن معه، وهذا عامة أهل العلم لا يكفرون به.

قال الخلال في السنة: “912 – أخبرني علي بن عيسى، أن حنبل بن إسحاق حدثهم قال: قال أبو عبد الله: ونؤمن بالقدر، خيره وشره، قال: ومن قال بالقدر وعظم المعاصي فهو أقرب، مثل الحسن وأصحابه، قلت: مَن مِن أصحاب الحسن؟ قال: علي الرفاعي، ويزيد الرقاشي، ونحوهم، ومن قال بالإبطال بالرؤية كان أشد قولا وأخبث“.

الحسن ثبت رجوعه عن ذلك، وهذا التفصيل هو صنيع أحمد.

وقال الخلال أيضًا: “939 – وأخبرني أبو بكر المروذي، قال: سمعت أبا عبد الله يسأل عن من قال: إن من الأشياء شيئا لم يخلق الله، هذا يكون مشركا؟ قال: إذا جحد العلم فهو مشرك يُستتاب، فإن تاب، وإلا قُتل، إذا قال: إن الله عز وجل لا يعلم الشيء حتى يكون“.

وقتادة لا يقول هذا.

وما موقف أحمد من كلام الأشعرية؟

قال المروذي: “حدثنا الميموني قال: سألته فيما بيني وبينه، واستفهمته واستثبته، قلت: يا أبا عبد الله: قد بلينا بهؤلاء الجهمية، ما تقول فيمن قال: إن الله ليس على العرش؟ قال: كلامهم كلهم يدور على الكفر“. [العلل للمروذي]

وقال النجاد في الرد على من يقول القرآن مخلوق: “3 – ثنا عبد الله بن أحمد قال: سألت أبي عن قوم يقولون لما كلم الله عز وجل موسى لم يتكلم بصوت، قال أبي: تكلم تبارك وتعالى بصوت وهذه أحاديث نرويها كما جاءت، وقال أبي: حديث ابن مسعود إذا تكلم الله عز وجل يسمع له صوت كمر سلسلة على الصفوان، قال أبي: فهذا الجهمية تنكره، وقال أبي: وهؤلاء كفار يريدون أن يموهوا على الناس“.

وهذا قولُ الأشعرية نفيُ أن الله يتكلم بصوت، وقد جهَّم أحمد المحاسبي لهذا القول وقال عن الكلابية زنادقة.

قال ابن تيمية في درء تعارض العقل والنقل (2/38): “قال الخلال: وأنبأنا أبو بكر المروزي: سمعت أبا عبد الله -وقيل له: إن عبد الوهاب قد تكلم وقال: من زعم أن الله كلم موسى بلا صوت فهو جهمي عدو الله وعدو الإسلام- فتبسم أبو عبد الله [يعني أحمد ابن حنبل] وقال “ما أحسن ما قال! عافاه الله!”“.

ولفظة “عدو الله وعدو الإسلام” من ألفاظ التكفير كما نبه عليه ابن المبرد في إيضاح طرق الاستقامة.

ولْنسأل رجلين كبيرين من أهل الحديث وهما البخاري وعثمان بن سعيد الدارمي في هذا الأمر.

قال الدارمي في رده على المريسي: “افتتح هذا المعارض كتابه بكلام نفسه مثنيا بكلام المريسي، مدلسا على الناس بما يهم أن يحكي ويري من قبله من الجهال ومن حواليه من الأغمار، أن مذاهب جهم والمريسي في التوحيد؛ كبعض اختلاف الناس في الإيمان في القول والعمل، والزيادة والنقصان، وكاختلافهم في التشيع والقدر، ونحوها؛ كي لا ينفروا من مذاهب جهم والمريسي أكثر من نفورهم من كلام الشيعة والمرجئة والقدرية.
وقد أخطأ المعارض محجة السبيل، وغلط غلطا كثيرا في التأويل، لما أن هذه الفرق لم يكفرهم العلماء بشيء من اختلافهم، والمريسي وجهم وأصحابهم؛ لم يشك أحد منهم في إكفارهم
“.

فالدارمي يقول إن أمثال قتادة لم يعتبر الناس قولهم كفرًا بينما أقوال المريسي كفر باتفاق عندهم، وأقوال المريسي نصَّ ابن تيمية في الحموية أن متأخري الأشعرية نصَرُوها.

وأما البخاري ففي خلق أفعال العباد نصَّ على أن قتادة قال إن العرب تثبت القدر في إسلامها وجاهليتها، ونصَّ في الكتاب نفسه على تكفير منكر العلو مما جعل الأشاعرة إلى زمن متأخر يتضايقون من قراءة كتابه هذا كما حصل مع المزي تلميذ ابن تيمية.

وقد نصَّ كلٌّ من أحمد وابن معين والعجلي على أن قتادة لم يكن يُظهِر القول بالقدر بل كان يكتمه، وهذا معناه أنه ما خلَّده في كتاب، فلو كان كتبه في تفسيره لما قالوا ذلك، فلا يقاس عليه أشعري ينشر عقيدته الأشعرية في كتبه.

قال ابن عدي في الكامل: “– حَدثنا ابن أبي عصمة، حَدثنا أَبو طالب، قال: قال أحمد بن حنبل: وكان هشام الدستوائي وقتادة وسعيد يقولون بالقدر، ويكتمونه من أصحاب الحسن“.

وكان قتادة يذم عمرو بن عبيد رأس القدرية في زمانه ويثني على أصحاب الحسن، فقارِن هذا بمن إذا ذكر أهل السنة ذكر الأشعرية كما فعل النووي في تهذيب الأسماء واللغات.

قال شيخ الإسلام في بيان تلبيس الجهمية (2/45):
ولا يقدر أحد أن ينقل عن أحد من سلف الأمة وأئمتها في القرون الثلاثة حرفا واحدا يخالف ذلك لم يقولوا شيئا من عبارات النافية أن الله ليس في السماء والله ليس فوق العرش ولا أنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا أن جميع الأمكنة بالنسبة إليه سواء ولا أنه في كل مكان أو أنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه ولا نحو ذلك من العبارات التي تطلقها النفاة لأن يكون فوق العرش لا نصا ولا ظاهرا بل هم مطبقون متفقون على أنه نفسه فوق العرش وعلى ذم من ينكر ذلك بأعظم مما يذم به غيره من أهل البدع مثل القدرية والخوارج والروافض ونحوهم
وإذا كان كذلك فليعلم أن الرازي ونحوه من الجاحدين لأن يكون الله نفسه فوق العالم هم مخالفون لجميع سلف الأمة وأئمتها الذين لهم في الامة لسان صدق..
“.

فابن تيمية يرى أن السلف ذموا إنكار العلو أكثر من ذمهم للقدرية، ومصداق كلامه عندك أعلاه، فما قيل في ذم القدرية يقع على نفاة العلو من باب أولى، وما قيل في مدحهم أو عذرهم لا يقع على نفاة العلو.

ونصَّ في منهاج السنة على ثلاثة أمور مهمة، وهي أن ما قيل ذم القدرية ينطبق من باب أولى على الجبرية لأنهم أسوأ (والأشعرية عنده جبرية).

وأن أصحاب الكتب الستة ما خرجوا لدعاة بدعة (وهذا يعني أنه يرجح أن قتادة ليس داعية).

وأن جعل المبتدعة أئمة في الدين غلط.

ولو فرضنا أن شخصًا بحث وترجح له أن قتادة ليس قدريًّا أصلًا -كما رجَّح أبو داود وتبعه ابن تيمية- لم يلزمه أن يثبت هذه النتيجة في كل مختلف فيه.