في رحاب همة الأكمه التي أخجلت المبصرين

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

الأكمه هو من ولد أعمى ولهذا كانت آية المسيح عليه الصلاة والسلام إبراء الأكمه فذلك يعجز عنه حتى حذاق الأطباء بخلاف من طرأ عليه العمى لاحقاً فهذا قد يبصر مع صعوبة الأمر وعسورته

قال الزمخشري في الكشاف :” ويقال: لم يكن في هذه الأمّة أكمه غير قتادة بن دعامة السدوسي صاحب التفسير” وهذا غلط فالمغيرة بن مقسم كذلك ولد أعمى وهناك غيرهم ولكنه لقلة علمه بالسلف لم يجد في المشاهير جدا سوى قتادة كذلك فمن هو قتادة ؟

قتادة بن دعامة السدودسي لا تفتح تفسيراً مأثوراً إلا وتجد كلامه ولا تفتح كتاب حديث إلا وتجد حديثه فهو من الثقات المجمع عليهم ، وكان عالماً باللغة وأيام العرب وأحد الفقهاء ، وذكر عنه القول بالقدر غير الغالي واختلف الناس في تبرئته من ذلك والبحث في هذا يطول وتفسيره يظهر عليه الاستقامة العقدية وروى البخاري في خلق أفعال العباد أخباراً عنه تدل على إثبات القدر بالجملة

في زماننا يتكلمون بشكل مستمر عن الذين قهروا الإعاقة في سياقاتهم التي يسمونها تحفيزية ويفوتهم الحديث عن هذا الرجل الكبير الذي مع كونه ( أكمهاً ) رحل في طلب الحديث وأكثر وفاق المبصرين في كثرة الشيوخ والرواية مع أنه تتلمذ على أنس خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم في بلده البصرة وأنس مكثر كما هو معلوم وقتادة أكثر عنه ولكن قتادة لم يقنع فكان له الكثير جداً من الشيوخ حتى أنه رحل إلى سعيد بن المسيب في المدينة ! وجلس عند سعيد مدة يسأله ويلح عليه حتى قال له سعيد : نزفتني يا أعمى .

قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى :” ومن هذا الباب كون العلم يورث كقوله: {العلماء ورثة الأنبياء} ومنه قوله: {وورث سليمان داود} ومنه توريث الكتاب أيضا كقوله: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا} ومثل هذه العبارة من النقص ونحوه تستعمل في هذا وإن كان العلم الأول ثابتا. كما قال سعيد بن المسيب لقتادة وقد أقام عنده أسبوعا سأله فيه مسائل عظيمة حتى عجب من حفظه وقال: نزفتني يا أعمى وإنزاف القليب ونحوه هو رفع ما فيه بحيث لا يبقى فيه شيء. ومعلوم أن قتادة لو تعلم جميع علم سعيد لم يزل علمه من قلبه كما يزول الماء من القليب لكن قد يقال: التعليم إنما يكون بالكلام والكلام يحتاج إلى حركة وغيرها مما يكون بالمحل ويزول عنه؛ ولهذا يوصف بأنه يخرج من المتكلم؛ كما قال تعالى: {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا} . ويقال: قد أخرج العالم هذا الحديث ولم يخرج هذا فإذا كان تعليم العلم بالكلام المستلزم زوال بعض ما يقوم بالمحل وهذا نزيف وخروج: كان كلام سعيد بن المسيب على حقيقته. ومضمونه: أنه في تلك السبع الليالي من كثرة ما أجابه وكلمه فارقه أمور قامت به من حركات وأصوات؛ بل ومن صفات قائمة بالنفس كان ذلك نزيفا ومما يقوي هذا المعنى أن الإنسان وإن كان علمه في نفسه فليس هو أمرا لازما للنفس لزوم الألوان للمتلونات بل قد يذهل الإنسان عنه ويغفل وقد ينساه ثم يذكره فهو شيء يحضر تارة ويغيب أخرى”

وروى يعقوب بن سفيان في المعرفة والتاريخ عن قتادة قوله : أعلم الناس بالحلال والحرام الحسن، وأعلمهم بالمناسك عطاء بن أبي رباح ، وأعلمهم بالتفسير عكرمة.

وقد تتلمذ قتادة على عكرمة والحسن وكان قتادة يقول : جالست الحسن اثنتي عشرة سنة أصلي معه الصبح ثلاث سنين. قال: ومثلي أخذ عن مثله.

وصح عن الزهري أنه قيل له: قتادة اعلم عندكم أو مكحول؟ فقال: لا بل قتادة.

أقول : مكحول فقيه أهل الشام وقتادة عراقي والزهري أميل للشاميين ولكنه على عادة الأئمة في الإنصاف
وقال يعقوب في المعرفة والتاريخ حدثنا سلمة ثنا أحمد حدثنا عبد الصمد ثنا أبو هلال قال: سألت قتادة عن مسألة فقال: لا أدري. فقلت: برأيك. قال: ما قلت برأيي منذ أربعين سنة. قال: ابن كم هو يومئذ؟ قال: كان ابن نحو من خمسين.

وهذا الأثر يبين لك شيئاً من سبب تحفظ السلف على أهل الرأي فهذا قتادة وهو رجل عراقي وهو من شيوخ أهل الرأي وكان يتحفظ عن الإفتاء بالرأي فضلاً عن معارضة السنن بالقياس فمن زعم أن حال أهل الرأي ضرورة فقد جازف وأبطل

و قال سلام بن مسكين : حدثنى عمرو بن عبد الله ، قال : لما قدم قتادة على سعيد بن المسيب ، فجعل يسائله أياما و أكثر ، فقال له سعيد : أكل ما سألتنى عنه تحفظه ؟ قال : نعم .
سألتك عن كذا فقلت فيه كذا و سألتك عن كذا فقلت فيه كذا ، و قال فيه الحسن كذا حتى رد عليه حديثا كثيرا . قال : يقول سعيد : ما كنت أظن أن الله خلق مثلك .
و قال الصعق بن حزن : حدثنا زيد أبو عبد الواحد ، قال : سمعت سعيد بن المسيب يقول : ما أتانى عراقى أحفظ من قتادة .
و قال غالب القطان ، عن بكر بن عبد الله المزنى : من سره أن ينظر إلى أحفظ من أدركنا فى زمانه و أجدر أن يؤدى الحديث كما سمعه فلينظر إلى قتادة ، ما رأيت الذى هو احفظ منه و لا أجدر أن يؤدى الحديث كما سمعه.

وفي العلل لعبد الله بن أحمد حدثني أحمد بن إبراهيم، قال: حدثنا أبو داود، عن شعبة، قال: حدثت سفيان الثوري بحديث قتادة، عن أبى حسان، عن ابن عباس، أن النبي – صلى الله عليه وسلم – أهل، فقال سفيان: وكان في الدنيا مثل قتادة؟.

علما أن سفيان لم يسمع من قتادة بشكل مباشر وإنما سمع منه قرينه شعبة

وقال أبو حاتم الرازي: سمعت أحمد بن حنبل وذكر قتادة فأطنب في ذكره فجعل ينشر من علمه وفقهه ومعرفته بالاختلاف والتفسير وغير ذلك، وجعل يقول: عالم بتفسير القرآن، وباختلاف العلماء ووصفه بالحفظ والفقه، وقال: قلما تجد من يتقدمه، أما المثل فلعل. «الجرح والتعديل» / (756) .

  • وقال أبو طالب: سمعت أحمد بن حنبل يقول: كان قتادة أحفظ أهل البصرة لا يسمع شيئًا إلا حفظه، وقرئ عليه صحيفة جابر مرة واحدة فحفظها، وكان سليمان التيمي، وأيوب يحتاجون إلى حفظه يسألونه وكان من العلماء، كان له خمس وخمسون سنة يوم مات. «الجرح والتعديل»

تأمل ما أكمل الستين عاماً وبقيت علومه إلى يوم القيامة يتعجب منها الناس ، وقد مات بعد الحسن بسبع سنوات فقط يعني بقي عامة عمره وأستاذه الحسن حي ينافسه ومع ذلك تتلمذ عليه الناس وعرفوا فضله وقد جلس مكان الحسن بعد وفاته وأذكر أنني في المدرسة كان عندنا درس عن العميان الذين تغلبوا على الإعاقة كما يقولون فذكروا طه حسين ! وأبا العلاء المعري ولم يذكر هذا الجبل على عادة الناس في نسيان أعيان السلف ولا حول ولا قوة إلا بالله

وثناء المحدثين على حفظه كثير جداً ومع ذلك تراهم لا يقبلون مراسيله ( يعني إذا ذكر الخبر بلا إسناد ) بل إنه يروي عن أناس عاصرهم ولم يسمع منهم ( وهو لا يقول سمعت ولو فعل لكان كذابا وهو ثقة باتفاق وإنما يروي فيقول قال فلان كذا ولو سألوه هل سمعته فإنه يقول لا وإنما بلغني عنه ) فيدققون في أمره ولا يقبلون ذلك