انتشر هذه الأيام بودكاست يتكلم فيه رجل اسمه بدر المطيري: شاب تعرّض للسجن ظلماً قبيل زفافه بأيام بتهمة تهريب المخدرات والهرب من السجن، وذلك لأن شخصاً انتحل شخصيته وارتكب هذا الجرم، حُكم ظلماً بالسجن 7 سنوات، فقد خطيبته وسمعته وصحته، واستمرت معاناته 18 عاماً حتى بعد أن أثبت براءته.
انتشرت مقاطعه وهو يبكي بحرقة وهو يتذكر المواقف المؤلمة التي مرت به، أرسلتُ مادته لعدد من الإخوة، فعامتهم كاشفوني بأن الحلقة أبكتهم بحرقة.
لا أريد أن أخلي المقام من عدة فوائد وعبر:
الأولى: الأزمات العظيمة تُحلُّ بالصبر والثبات
ولا صبر إلا بأمل، والأمل يتضمن شعوراً بالعدالة الإلهية ورجاءً ورغبةً، لذا فالإيمان خير معين على الوقوف أمام الصدمات العظيمة، لأنه يوفر العزاء بأن في ذلك كفارة وأن في الآخرة ثواباً وجزاءً، فلا يقنط المرء ولا ييأس.
قال تعالى:
{ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين • الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون • أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}.
وفي الصحيحين من حديث عائشة: «ما من مرض أو وجع يصيب المؤمن إلا كان كفارة لذنوبه، حتى الشوكة يشاكها أو النكبة ينكبها».
الثانية: “لا بد للناس من تنفيسات”
فتجد أن رب العالمين سخر لك في المصيبة العظيمة من يقف معك ويواسيك، كما ذكر بدر من قصة الرجل العماني الذي أعانه وربّت على كتفه في أشد ما يجد من المصيبة، والعطايا لا تُحصر بالمال فقد تأتي العطية على هيئة وفاء أو على هيئة مواساة في بلية عظيمة.
قال تعالى:
{فإن مع العسر يسرا • إن مع العسر يسرا}.
الثالثة: الإيمان أمل (مرة أخرى).
في حديثه عن عنبر المحكومين بالإعدام وما صدر عنهم من مروءات، وكيف يعرفون أن أحدهم ذاهب إلى الإعدام إذا تحلل من أصحابه (يطلبهم براءة الذمة من حقوقهم عليه)، فهنا تظهر قيمة الإيمان، المحكوم بالإعدام هنا ينسى كل هذا الزخرف الذي لطالما أشغله عن آخرته ويتذكر فقط الآخرة، وأن هناك حقوقاً عليه للخلق، يريد أن يتخفف منها ويقابل الله عز وجل راجياً عفوه، كل واحد منهم يحلل صاحبه، لكي يحلله الآخرون، ولعلهم بعد ذلك يكونون إخواناً على سرر متقابلين، لقد فهموا من معاني الأخوّة الإيمانية ما يجهد المرء أن يشرحه للمتدينين ليرى أثره عليهم.
الرابعة: المنظومات الأبوية تأخذ وتعطي.
في عالم الليبرالية والفردانية مفهوم الأسرة وصلة الرحم والقبيلة كلها مفاهيم ممقوتة، ويُنظر إليها على أنها قيود تقيِّد المرء بأمور هو في غنى عنها؛ ولكن حين يصاب المرء بابتلاء ويرى هؤلاء واقفين معه = يفهم أن الغنم بالغرم وأن الشريعة ما أبقت على هذه الاعتبارات عبثاً، وحثّت على توطيدها، مع البعد عن النعرات الجاهلية.
الخامسة: “ويل لديَّان أهل الأرض من ديَّان أهل السماء”.
تلك كلمة مأثورة عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان يخوف بها نفسه، المنصب والتأمر على الناس قد يكون باب بطولة، تُنزل العقوبة بمن يستحق وتشفي صدور المؤمنين وتُنقذ أقواماً من الظلم والحيف، وقد يكون باباً من أبواب جهنم، ومن أكثر ما يخيف خبر:
«القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار».
السادسة: العدل لا يستتم إلا يوم القيامة.
الرجل الذي انتحل شخصية صاحبنا لم يُقبض عليه، وقيل إنه توفي، وكثير ممن ظلم سلم، وذلك يدلك بداهةً على ضرورية الآخرة ليستتم العدل، وقد ذُكر لنا من العدل في ذلك اليوم: أن الشاة الجماء تقتص من الشاة القرناء، فهذا في البهائم العجماء فكيف بالبشر المكلفين؟
قال تعالى:
{ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار • مهطعين مقنعي رءوسهم}.
افتتح البخاري “كتاب المظالم والغصب” من صحيحه بهذه الآية.
ولولا الاحتساب وتذكُّر يوم الحساب لمات بعض الناس كمداً من شدة ما وقع عليهم من الظلم.
السابعة: “اتقوا الله فيمن لا ناصر له إلا الله”
قالها بلال بن سعد التابعي، وفي الحديث:
«واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينه وبين الله حجاب».
ذكر المطيري أنه ما تحَسبن على أحد ممن ظلمه (قال حسبنا الله ونعم الوكيل) إلا ورأى له عاقبة سوء، حتى الرجل الذي انتحل شخصيته، اتصلوا به وأخبروه أنه عاش في ضنك وتوفي، ولم يكشفوا عن شخصيته.
وثمة معانٍ أخرى أكتفي بهذه اختصاراً، وحتى يتعود المرء أن يعتبر مما حوله ويثبت المعاني العقدية العظمى مما يشاهد من أحوال الناس.