فما تهيا لأحد منهم أَن يغرب علي حديثا !

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

قال ابن أبي حاتم في تقدمة الجرح والتعديل (1/355) :

 سَمِعتُ أَبي رحمه الله يقول
:

 قلت على باب أبي الوليد الطيالسي
من أغرب علي حديثا غريبا مسندا صحيحا لم أَسمع به فله علي درهم يتصدق به وقد حضر على
باب أبي الوليد خلق من الخلق أَبو زُرعَة فمن دونه، وإنما كان مرادي أَن يلقى علي ما
لم أَسمع به فيقولون هو عند فلان فأذهب فأسمع، وكان مرادي أَن أستخرج منهم ما ليس عندي،
فما تهيا لأحد منهم أَن يغرب علي حديثا.

أقول : تأمل قول أبي حاتم ( فما تهيا لأحد منهم أَن يغرب علي حديثا) وما
يدل على صحة حفظه واطلاعه حتى أبو زرعة الذي أن أحمد يحفظ ألف ألف حديث المذاكرة (
ممايدل على أنه هو نفسه يحفظها أيضاً ) ، لم يستطع ان يغرب عليه

ويزداد عجبك أخي القاريء إذا علمت أن الإغراب عندهم لا يعني أن تأتي بمتن
لا يعرفه ! ، وإنما أن تأتي بإسناد لا يعرفه فيكون الحديث معروفاً من حديث سفيان عن
الأعمش ، فتأتي وترويه له من حديث شعبة عن الأعمش فهذا إغراب عندهم !

وحتى على هذا المعنى لم يستطيعوا الإغراب عليه ، فأي حفظ هذا ؟!

وهل مثل هذا الرجل يصح أن نتعقب عليه بما نجده في بعض الأجزاء والفوائد
وكتب الغرائب التي عند تدقيق النظر تكتشف أنها أخطاء

ومما يدل على سعة حفظ الإمام أبي حاتم الرازي كتاب ابنه الجرح والتعديل
فأنت لا تجد صحابياً ولا تابعياً ولا واحداً من اتباع التابعين ولا الآخذين عن اتباع
التابعين إلا وهو مترجم في هذا الكتاب ، ثم تجد أن أبا حاتم يذكر شيوخهم وتلاميذهم
واحداً واحداً ، ويتكلم عليهم حتى أن بعضهم ليس له إلا خبراً واحداً عن الحسن قوله
، وعن ابن سيرين قوله فلا يفوت على ابن أبي حاتم ذكره وقبله صنع هذا البخاري وابن أبي
حاتم زاد

فهل يعقل أن يخفى على هؤلاء الجبال أصلٌ مرفوع ثابت !

فتراهم يقولون ( لا أصل له ) و ( لا يصح في الباب شيء ) وغيرها من الكلمات
فيأتي من يتعقبهم بلا روية ، ثم تثبت الأدلة خطأه وصوابهم

وما كانوا قليلي الورع يجزمون هكذا ، بلا أدلة ولا براهين على غلط راو
أو عدم صحة خبر

قال الخطيب البغدي في تاريخ بغداد (816) أَخْبَرَنِي الْبَرْقَانِيُّ،
قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الأَدَمِيُّ،
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا السَّاجِيُّ،
قَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ وَاقِدٍ الأَسْلَمِيُّ، قَاضِي بَغْدَادَ مُتَّهَمٌ؛
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: سمعت أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ، يَقُولُ:

 لَمْ نَزَلْ نُدَافِعُ أَمْرَ
الْوَاقِدِيِّ، حَتَّى رَوَى عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ نَبْهَانَ، عَنْ
أُمِّ سَلَمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” أَفَعَمْيَاوَانِ
أَنْتُمَا “.

فَجَاءَ بِشَيْءٍ لا حِيلَةَ فِيهِ، وَالْحَدِيثُ حَدِيثُ يُونُسَ لَمْ
يَرْوِهِ غَيْرُهُ

وهذا نقد دقيق جداً ، فهذا الحديث إنم يعرف من رواية يونس عن الزهري ،
فرواه الواقدي من حديث معمر عن الزهري فكذبه أحمد !

ولعل قائلاً يقول : الخطب في هذا يسير ما دام الحديث معروفاً عن الزهري
، وهل حفظ أحمد كل حديث معمر حتى يجزم هذا الجزم

فأقول : هذا ما تقضيه النظرة السطحية ، أما النظرة الفاحصة عند أحمد وأصحابه
، فتقول أن معمراً أحفظ من يونس ولو كان الحديث عند معمر لطار به تلاميذه واشتهر ولما
احتاج الناس إلى يونس فيه كثيراً ، وقد رواه ابن عيينة أيضاً ، ونعم أحمد يحفظ كل حديث
معمر !

فعبد الرزاق وهو أخص الناس بمعمر روى هذا الحديث بنزول عن ابن المبارك عن
يونس ، ولو كان عنده عن معمر لترك هذا كله

هذا النقد خاص بأئمة الحديث ، ولا يعرفه من يسمى ب( الفقهاء ) بممن ارتضى
لنفسه طريقة غير طريقتهم في تصحيح الأحاديث وتعليلها ، والسبب في كون نقد أئمة الحديث
أدق أنهم هم أهل الصنعة ، وقد عاينوا زمن الرواية وكشفوا خبايا الرواة وعرفوا دخائل
أنفسهم ، وعلموا من أين يدخل عليهم الوهم

هذا مع حباهم الله عز وجل به من سعة الحفظ وقوة الفهم ، فالمغبون حقاً
من قدم غيرهم عليهم في هذا الباب

قال ابن حجر  في النكت (1/ 448) :” وروى أبو موسى في هذا الكتاب من
طريق حنبل بن إسحاق قال: “جمعنا أحمد أنا وابناه عبد الله وصالح وقال: انتقيته
من أكثر من سبعمائة ألف وخمسين ألفا فما اختلف فيه المسلمون من حديث رسول الله – صلى
الله عليه وسلم – فارجعوا إليه، فإن وجدتموه، وإلا فليس بحجة”

وقد بين ابن الجوزي أن المقصود بهذه الطرق وليست المتون ، فهذا الذي يحفظ
750 ألف خبر مرفوع بين صحيح وضعيف وموضوع ، هل تظن أن من السهل أن يخفى عليه خبر صحيح
! .

خصوصاً بإسناد مشهور كابن المنكدر عن جابر ، أو الأعمش عن أبي صالح عن
أبي هريرة

قال ابن الجوزي في تلقيح فهوم أهل الأثر (1/262) :” أعلم أَن حصر
أَحَادِيث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعيد إِمْكَانه غير أَن جمَاعَة من
أهل الْعلم بالغوا فِي تتبعها وحصروا مَا أمكنهم فَأخْبر كل مِنْهُم عَن وجوده فحدثنا
عَن أبي عبد الله واره قَالَ كنت عِنْد إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بنيسابور فَقَالَ رجل
من أهل الْعرَاق سَمِعت أَحْمد بن حَنْبَل يَقُول صَحَّ الحَدِيث سَبْعمِائة ألف وَكسر
وَهَذَا الْفَتى يَعْنِي أَبَا زرْعَة قد حفظ سِتّمائَة ألف”

والمقصود بهذا الطرق وليس المتون ، ويبدو أنه يريد المرفوع والموقوف بل
والمقطوع أيضاً ، فرجل يحفظ كل هذه الأسانيد الصحاح مرفوعاً وموقوفاً ومقطوعاً هل من
السهل اتهامه بخفاء عدد من الأخبار الصحيحة عليه

قال ابن رجب في شرح علل الحديث ص494 :” وبلغني بإسناد هو لي مسموع
أن أبا زرعة قال: أنا أحفظ ستمائة ألف حديث صحيح وأربعة عشر ألف إسناد في التفسير والقراءات،
وعشرة آلاف حديث مزورة. قيل له: ما بال المزورة تحفظ؟ قال: إذا مر بي (منها) حديث عرفته”

وهذا من ذاك

وأنا أذكر هذا لبيان أمرين

أولاً : أن هؤلاء القوم ( أعني أئمة العلل ) دليل من دلائل النبوة فقد
قال الله عز وجل ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) وقال تعالى ( وَأَنْزَلْنَا
إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)

ولا يجوز في حكمة الله عز وجل ان يحفظ القرآن ولا يحفظ بيانه من السنة
.

 فكان حفظ السنة آيةً تجلت في هؤلاء
الكبار ، وما حفظ كلام أحد من البشر في تاريخ البشرية ما حفظ كلام النبي صلى الله عليه
وسلم ، وهذا من إكرام الله عز وجل له ورفعته لدينه ، ومن مظاهر خيرية هذه الأمة وخيرية
نبيها صلى الله عليه وسلم

الأمر الثاني : أن كثيراً من الأخوة لا يعرفون قدر هؤلاء ، فإنك إذا عرفت
قدر المرء عرفت كيف تزن كلامه ، ولا أدعو بذلك إلى التقليد وإنما أدعو إلى ترك النظرة
المزرية لأئمة الإسلام فهم يخطئون الثقات بغير دليل ، ولا يميزون بين الصحيح والضعيف
، ويدعون الدعاوى الكبيرة بلا دليل ما أكثر ما يقولون ( لا يصح في الباب شيء ) وتصح
أخبار !

هذه هي النظرة التي لا بد أن يقضى عليها ، ونحن اليوم إذا تعقبنا معاصرًا،
كان أول كلمة نقابل بها ( لعله وقف على ما لم تقفوا عليه ) ، ثم يأتي الاتهام بالعجلة
رديفاً ، ولماذا لا يقال هذا في أئمة النقد عند تعقبهم فيقال ( تأنوا يا أخوة فلعل
لهذه الأسانيد عللاً وقف عليها الأئمة ولم تقفوا عليها ) ، وكثير من الناس يعير الآخرين
فيقول ( هم يستفيدون من كتب الشيخ فلان ويتعقبونه ) ، والأمة كلها تستفيد من كلام أئمة
الجرح والتعديل ، ومع ذلك يأتي من يتعقبهم بتعقبات كثيرة بعيدة عن الروية ظهر فيها
غلطه ، فلماذا لا يقال له هذا ؟

من أراد مخالفة الأئمة فليكن بالدليل وبالتؤدة ، ولا يعمد إلى إجماع منهم
وينقضه ، ولا يعمد إلى كلام لم يستطع فهمه ثم يرد عليه وهو لم يفهمه أولاً فيوقع نفسه
بالحرج

ومن كثرت مخالفاته لهم فليتهم نفسه

ثم أفادني بعض الأخوة بآثار في هذا الباب أذكرها  للفائدة :

وقال البرذعي في سؤالاته (291-ط الفاروق الحديثية) :”ذكرت لأبي زرعة
عن مسدد عن محمد بن حمران عن سَلْم بن عبد الرحمن عن سوادة بن الربيع الخيل معقود في
نواصيها

فقال لي : راوي هذا كان ينبغي لك أن تكبر عليه

ليس هذا من حديث مسدد كتبت عن مسدد أكثر من سبعة آلاف وأكثر من ثمانية
آلاف وأكثر من تسعة آلاف ما سمعته قط ذكر محمد بن حمران.

قلتُ له : روى هذا الحديث يحيى بن عَبْدَك عن مسدد

فقال : يحيى صدوق وليس هذا من حديث مسدد .

فكتبت إلى يحيى

فكتب إلي: لا جزى الله الوراق عني خيرا أدخل لي أحاديث المعلى بن أسد في
أحاديث مسدد ولم أميزها منذ عشرين سنة حتى ورد كتابك وأنا أرجع عنه .

فقرأت كتابه على أبي زرعة

فقال : هذا كتاب أهل الصدق”

خْبَرَنِي محمد بن علي المقرئ ، قال : أَخْبَرَنَا أبو مسلم بن مهران ،
قال : أَخْبَرَنَا عبد المؤمن بن خلف النسفي ، قال : سمعت أبا علي صالح بن محمد ، يقول
: سمعت أبا زرعة ، يقول :

كتبت عن رجلين مائتي ألف حديث ، كتبت عن إبراهيم الفراء مائة ألف حديث
، وعن ابن أبي شيبة عبد الله مائة ألف حديث .اهـ

أقول :

محمد بن علي المقريء مقلوب وصوابه على بن محمد المقريء الحذاء

كذا في ترجمة شيخه بن مهران وهو والصواب

والإسناد صحيح

وقال الخطيب أيضاً :

أَخْبَرَنِي أبو زرعة روح بن محمد الرازي إجازة شافهني بها ، قال : أَخْبَرَنَا
علي بن محمد بن عمر القصار، قال: حَدَّثَنَا عبد الرحمن بن أبي حاتم، قال :

قلت لأبي زرعة : تحزر ما كتبت عن إبراهيم بن موسى مائة ألف ؟

قال : مائة ألف كثير ، قلت : فخمسين ألفا ؟

قال : نعم ، وستين ألفا ، وسبعين ألفا .اهـ

قال ابن أبي حاتم رحمه الله في التقدمه :

حضرت أبي رحمه الله وكان في النزع ، وأَنا لاَ أعلمُ .

فسألته عن عقبة بن عَبد الغافر يروي عن النَّبي صَلى الله عَليه وسَلم
: له صُحبةٌ ؟ فقال برأسه : لا ،

فلم أقنع منه فقلت : فهمت عني : له صُحبةٌ ؟ قال: هو تابعي.

قلتُ – القائل ابن أبي حاتم – :فكان سيد عمله معرفة الحديث وناقلة الآثار
فكان في عمره يقتبس منه ذلك

فأراد الله أَن يظهر عند وفاته ما كان عليه في حياته.اهـ

وقال في ترجمة عقبة :

سَألتُ أَبي، وهو في النزع، عن عقبة بن عَبد الغافر: هل له صُحبةٌ؟ فقال:
لا، بلسان مسكين.اهـ

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم