فضل عشر ذي الحجة وتثبيت الأصول العقدية
قال البخاري في صحيحه: “969 – حدثنا محمد بن عرعرة قال حدثنا شعبة عن سليمان عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ما العمل في أيام أفضل منها في هذه” [يعني عشر ذي الحجة] قالوا: ولا الجهاد؟ قال: “ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء”“.
عادة الناس أنهم ينظرون للفضائل بمعزل عن المطالب العقدية الكبرى، وليس هذا سديدًا، ففي الوحي كل شيء يتصل بالاعتقاد.
فهذا الخبر فيه تذكير بأصول كبرى في الإلهيات والقدر والإيمان والسلامة من تأثير الحداثة وطريقتها في تقويم الأمور والسلامة من الآفات القلبية مثل القنوط أو الأمن من مكر الله.
فأما الإلهيات فالتذكير بصفة الرحمة، فأنت في بداية القراءة تقول: “بسم الله الرحمن الرحيم” وفي الفاتحة التي تقرأ في كل صلاة ذكر الرحمن الرحيم، فالوحي مبدأه الرحمة.
ومن مظاهر تلك الرحمة مضاعفة الحسنات، فالحسنة بعشر أمثالها والسيئة لا يجزى إلا بمثلها، ومع ذلك وُضعت مواسم خير تُضاعف فيها الحسنات (وما قيل من مضاعفة السيئات فيه نظر إذ لا دليل عليه)..
يكون فيها الأجر مضاعفًا ويكون هذا رأس المال العظيم الذي يجمعه المرء، فمن أصابه القنوط لذنوب تراكمت يأتي موسم الخير ليتدارك، وتكون الطاعات التي يقضيها فيها بعدل لحظات السيئات وإن طالت تلك اللحظات.
فربما تجد المرء تأخذه الشهوة لِأن يقضي ساعات في ذنب معين، فيأتيه الشيطان مقنِّطًا ويقول: أنت لا تطيع الله كل هذه الساعات، فصلاتك قليلة وذكرك قليل. فيأتي موسم الخير الذي يتضاعف فيه أجر وقت الطاعة وكأنه زمن مضاعف من الطاعة ليخزي الشيطان (وهذا ليكون الأمر مفتاحًا للاستمرار على الطاعة والبعد عن المعصية لا أن يأمن المرء من مكر الله).
ثم هذا الفضل لم يعلَّق على مجرد إدراك الزمان، فلا بد من (عمل صالح)، ومن العمل الصالح اتقاء السيئات فهذا أيضًا سد لباب الأمن من مكر الله عز وجل.
فهذا مدخل الرحمة والتربية على التوسط بين الرغبة والرهبة.
وأما تقويم العقيدة في القدر فتجد القدري ينظر لفعله هو فقط وأما الجبري فلا يعقل إلا فعل الله عز وجل في الكون، وهنا يظهر فعل العبد ولكن تأثيره مقترن بفضل الله عز وجل عليه بمضاعفة أجره وتوفيقه وتسديده.
وأما تقويم العقيدة في الإيمان فتعليق الثواب على العمل لبيان عظيم قدر العمل، وهذه الأحاديث تتضمن دفعًا ضمنيًّا لاعتقاد الخوارج الذين يكفِّرون بالكبائر، فلو كان قولهم صحيحًا لنبه على أمر الكبائر عند ذكر أي فضل لأن الكبائر تحبط العمل وينبغي للناصح أن يبين هذا، فإن قيل: أليس هذا مذكورًا في الشرك أيضًا؟ فيقال: أمر الشرك مسلَّم به ومعروف عند كل الناس، وأما الكبائر فكم من موحد يقع فيها.
وأما السلامة من تأثير الحداثة فلاحظ أن الصحابة ذكروا الجهاد في سبيل فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء.
ونحن أفضل المجاهدين عندنا الذين يحرزون النصر ويفتحون الفتوحات، غير أن قتال أهل الإسلام يختلف عن قتال غيرهم، فلا شك أنهم يطلبون النصر ولكنهم يطلبون قبل هذا كله رضا الله تبارك وتعالى.
والمرء فيهم يهتم لإخلاص قلبه وكلما اشتدت مخاطرته كلما كان ذلك أدعى لبيان إخلاصه دون أن يكون قاصدًا إتلاف نفسه.
لهذا صدقة السر أفضل من صدقة العلن في الأصل وإن كانت صدقة العلن أكبر، لأن الإخلاص في صدقة السر أعظم.
وصدقة المرء وهو شحيح صحيح يرجو الغنى ويخاف الفقر أفضل من صدقة من لا يخاف الفقر لعظيم غناه وإن كانت صدقة الثاني أكبر وأنفع للخلق.
لأن النظر ليس فقط لنفع الخلق بل النظر أيضًا لحق الخالق سبحانه وتقرُّبِ عبده منه، ولهذا كان التعبد له بإخلاص في زمان هو حدده وجعله فاضلًا أعظم أجرًا من فعل جليل عظيم الأجر جدًّا كالجهاد دون مخاطرة.
ولهذا كانت الصلاة أعظم أجرًا من الزكاة مع عظيم نفع الزكاة على العباد.