هذا مقال علمي حديث النشر عن فائدة الجبال في نزول الأمطار
وليس العجب في هذا فالكون فيه أسرار وعجائب من الحكمة الإلهية ولكن العجيب أن هذا المعنى شرحه ابن مسكوية المتوفى عام ٤٢١ كأحسن ما يكون في كتابه الهوامل والشوامل حيث جاء فيه : (مَسْأَلَة سَأَلَ عَن الْحِكْمَة فِي كَون الْجبَال)
الْجَواب: قَالَ أَبُو عَليّ مسكويه – : إِن مَنَافِع الْجبَال ووضعها على بسيط من الأَرْض. كثير جدا ولولاها مَا وجد نَبَات وَلَا حَيَوَان على بسيط الأَرْض وَذَلِكَ أَن سَبَب وجود النَّبَات وَالْحَيَوَان وبقائهما بعد هُوَ المَاء العذب السائح على وَجه الأَرْض.
وَسبب المَاء العذب السائح هُوَ انْعِقَاد البخار فِي الجو. أَعنِي السَّحَاب وَمَا يعرض لَهُ من الانحصار بالبرد حَتَّى يعود مِنْهُ إِمَّا مطر وَإِمَّا ثلج وَإِمَّا برد. وَلَو أَنَّك توهمت الْجبَال مُرْتَفعَة عَن وَجه الأَرْض وتخيلت الأَرْض كرة مستديرة لَا نتوء وَلَا غور فِيهَا لَكَانَ البخار الْمُرْتَفع من هَذِه الكرة لَا ينْعَقد فِي الجو وَلَا ينْحَصر وَلَا يعود مِنْهُ مَاء عذب. بل كَانَ غَايَة ذَلِك البخار أَن يتَحَلَّل ويستحيل هَوَاء قبل أَن يتم مِنْهُ مَا هُوَ سَبَب عمَارَة وَجه الأَرْض وَذَلِكَ لأجل أَن البخار الْمُرْتَفع من الأَرْض يحصل بَين أعوار الأَرْض وَبَين الْجبَال الَّتِي تَمنعهُ السيلان ومطاوعة حَرَكَة الْفلك وَأَسْبَاب الرجة الَّتِي هِيَ حَرَكَة الْهَوَاء. أَعنِي أَن قلل الْجبَال الشاهقة تحفظ الْهَوَاء المحتقن يين أغوارها من الْحَرَكَة الَّتِي يُوجِبهَا الْفلك بأسره وَالْكَوَاكِب فِيهَا وشعاعاتها المؤثرة الملطفة الَّتِي توجب لَهَا السيلان. فَإِذا حصل الْهَوَاء بَين الْجبَال كَذَلِك – كَانَ البخار الْمُرْتَفع فِيهِ أَيْضا مَحْفُوظًا من التبدد وَالْحَرَكَة بتحرك الْهَوَاء وَلحق هَذَا البخار من برد الْجبَال الَّتِي تحفظه فِي زمَان الشتَاء على أَنْفسهَا مَا يجمده ويعقده ثمَّ يعصره فَيَعُود مَاء مستحيلاً أَو غَيره مِمَّا يجْرِي مجْرَاه. وَلَوْلَا الْجبَال لكَانَتْ هَذِه الْمِيَاه الْمُدبرَة بِهَذَا التَّدْبِير مَه مَا ذَكرْنَاهُ لَا تجْرِي على وَجه الأَرْض إِلَّا ريثما يهدأ الْمَطَر ثمَّ تنشفه الأَرْض فَكَانَ يعرض من ذَلِك أَن يكون النَّبَات وَالْحَيَوَان يعدمه فِي صميم الصَّيف وَعند الْحَاجة الشَّدِيدَة إِلَيْهِ فِي بقائهما حَتَّى كَانَ لَا يُوصل إِلَيْهِ إِلَّا كَمَا يُوصل فِي الْبَوَادِي الْبَعِيدَة من الْجبَال أَعنِي باحتفار الْآبَار الَّتِي يبلغ عمقها مائَة وَمِائَتَيْنِ من الذرعان. فَأَما الْآن – مَعَ وجود الْجبَال – فَإِن الأمطار والثلوج تبقى عَلَيْهَا فَإِذا نشفتها فِي الْوَقْت أَو بعد زمَان نشأت من أسافلها الْعُيُون وسالتت مِنْهَا الْأَنْهَار والأودية وساحت على وَجه الأَرْض منصبة إِلَى الْبحار جَارِيَة من الشمَال إِلَى الْجنُوب فَإِذا فنى مَا استفادته من الأمطار فِي الصَّيف لحقتها نوبَة الشتَاء والأمطار فَعَادَت الْحَال. وَالدَّلِيل على أَن الْعُيُون والأنهار والأودية كلهَا من الْجبَال أَنَّك لَا ترتقى فِي نهر وَلَا وَاد إِلَّا أفْضى بك إِلَى جبل
فَأَما الْعُيُون فَإِنَّهَا لَا تُوجد إِلَّا بِالْقربِ من الْجبَال الْبَتَّةَ. وَكَذَلِكَ مَا يستنبط من القنى وَمَا يجْرِي مجْراهَا. فالجبال تجْرِي من الأَرْض فِي إساحة المَاء عَلَيْهَا من الأمطار مجْرى إسفنجة أَو صوفة تبل بِالْمَاءِ فَتحمل مِنْهُ شَيْئا كثيرا ثمَّ تُوضَع على مَكَان يسيل مِنْهُ المَاء قَلِيلا قَلِيلا حَتَّى إِذا جَفتْ أُعِيد بلها وسقيها من المَاء لتدوم الرُّطُوبَة السائلة مِنْهَا على وَجه الأَرْض وَيصير هَذَا التَّدْبِير سَببا لعمارة الْعَالم وَوُجُود النَّبَات وَالْحَيَوَان فِيهِ. وللجبال مَنَافِع كَثِيرَة إِلَّا أَن مَا ذَكرْنَاهُ من أعظم مَنَافِعهَا فليقتصر عَلَيْهِ. ولثابت مقَالَة فِي مَنَافِع الْجبَال من أحب أَن يستقصي في هذا الباب
أقول : ولا زلت أذكر حين سئل الملحد ريتشار دوكنز عن فائدة الجبال فوصفه بأنه سؤال سخيف حين تسيطر العشوائية على عقلك تمنعك من مشاهدة الحكمة