قال ابن تيمية في «بيان تلبيس الجهمية» [2/71] وهو يحاكم بين المتكلمين كالجويني والرازي والفلاسفة كابن رشد في مسألة خلق العالم:
“وينبغي أن يعلم أن الذي سلط هؤلاء الدهرية على الجهمية شيئان أحدهما ابتداعهم لدلائل ومسائل في أصول الدين تخالف الكتاب والسنة ويخالفون بها المعقولات الصحيحة التي يفسر بها خصومهم أو غيرهم والثاني مشاركتهم لهم في العقليات الفاسدة من المذاهب والأقيسة ومشاركتهم لهم في تحريف الكلم عن مواضعه فإنهم لما شاركوهم فيما شاركوهم في بعد تأويل نصوص الصفات بالتأويلات المخالفة لما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها كان هذا حجة لهم في تأويل نصوص المعاد وغيرها كما احتج به هذا الفيلسوف وكما يذكره أبو عبد الله الرازي ومن قبله حتى إن الدهرية قالوا لهم القول في آيات المعاد كالقول في آيات الصفات فكان من حجتهم عليهم وضموا ذلك إلى ماقد يطلقونه من الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين فقالوا له أنت تقول الظواهر لا تفيد القطع أيضًا والآيات المتشابهة في القرآن الدالة على المشيئة والقدر ليست أقل ولا أضعف دلالة من الآيات الدالة على المعاد الجسماني ثم إنكم تجوزون تأويل تلك الآيات فلم لا تجوزون أيضًا تأويل الآيات الواردة ها هنا”.
يرى ابن تيمية أن المتكلمين النافين لأفعال الله عز وجل الاختيارية تسلَّط عليهم الفلاسفة الدهرية القائلون بقدم العالم (وهؤلاء متفق على تكفيرهم)، (لأنهم يقولون لهم كيف خلق الله عالماً حادثاً وهو لا يفعل بالاختيار فالقديم لا يصدر منه إلا قديم).
وأنهم عجزوا عن إقامة الحجة على هؤلاء.
وقد قال ابن تيمية إنّ ضعف المتكلمين في الرد على الدهرية كان سبباً في ردة كثير عن أهل الإسلام كما في «بيان تلبيس الجهمية» [1/421]: “الثالث:
طمع الفلاسفة الدهرية فيكم، وقولهم فيكم: أهل جدل وكلام، لا أهل علم وبرهان، حتى ارتد خلق كثير منكم، إليهم، بل ابن الراوندي الذي يقال: إنه من شيوخ الأشعري، صنف كتابه المسمى بـ «كتاب التاج في قدم العالم» موافقة للدهرية”.
وقال في «التسعينية» [3/774]: “
وقد قيل: إن الأشعري في آخر عمره أقرَّ بتكافؤ الأدلة، واعتبر ذلك بالرازي فإنه في هذه وهي مسألة حدوث الأجسام -يذكر أدلة الطائفتين، ويصرح في آخر كتبه وآخر عمره، وهو كتاب “المطالب العالية” بتكافؤ الأدلة وأن المسألة من محارات العقول. ولهذا كان الغالب على أتباعهم الشك والارتياب في الإسلام”
يعني أتباع الأشعري والرازي، وفي تتمة كلامه ذِكر لقصصٍ لهم في ذلك.
وهنا سؤال: إذا كان المتكلمون عاجزين عن إقامة الحجة على الدهرية أو على الأقل طريقتهم في ذلك ضعيفة، وأهل الحديث ما أقاموا الحجة على جمهرة المتكلمين، ولهذا لا يكفرون، فهُم في عامة علمائهم ومشاهيرهم عاجزون عن معرفة الحق ولذلك لم يكفروا -كما يعتقد البعض.
فأين حجة الله عز وجل التي قامت على الدهرية حتى كفروا؟ وقد قال الله تعالى: {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} والدهرية أكفر من الوثنيين.
وإذا كان في القرآن والسنة وكلام أهل الحديث ما يقيم الحجة على الدهرية (وهذا ما نعتقده)، فإن ذلك مقيم للحجة على أهل الكلام، لأن المتكلم المتحير بسبب ضعف أجوبته على كلام الدهرية والراغب بالرد عليهم، إن وجد فيما يوافق الفطرة وظواهر النصوص ما يقيم الحجة، فما الذي يجعله يتمسك بنتاج علم الكلام، الذي اضطره إلى معارضة ظواهر النصوص؟
وقال ابن تيمية في «بيان التلبيس» [2/73]:
“وكلا الطائفتين مخالف للفطرة العقلية ومخالف لما نعلم نحن بالضرورة من دين الرسول ومخالف للأقيسة العقلية البرهانية والنصوص الإلهية القرآنية والإيمانية فإن قال المتكلمون من الجهمية وغيرهم فمن خالف ما علم بالضرورة من الدين فهو كافر قيل لهم فلهذا كان السلف والأئمة مطبقين على تكفير الجهمية حين كان ظهور مخالفتهم للرسول صلى الله عليه وسلم مشهورًا معلومًا بالاضطرار لعموم المسلمين حتى قبل العلم بالإيمان فيما بعد وصار يشتبه بعض ذلك على كثير ممن ليس بزنديق”.
ويعني بالطائفتين المتكلمين والفلاسفة.
والتحقيق يقتضي أن الحجة إذا قامت على طائفة مخالفة للقرآن والسنة والفطرة والبرهان، فينبغي أن تقوم على الطائفة الأخرى التي خالفت -في السياق نفسه- القرآن والسنة والفطرة والبرهان وكلام السلف، وكانت ألصق بالاشتغال بالنصوص من الفلاسفة.
قال تعالى: {لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون}.
فسره جماعة من السلف أن من بلغه القرآن فقد بلغه النبي ﷺ.