عيبه أنه لم يصنف ببغداد

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

قال ابن طاهر المقدسي كما في المنتخب من
المنثور 46_ سمعت الإمام أبا الفتح نصر بن إبراهيم المقدسي شيخ الشام يقول : لما
عبر القاضي أبو عبد الله القضاعي في الرسالة إلى ملك الروم اجتاز بصور ، وعرض عليه
الشيخ أبو الفتح سليم بن أيوب كتابه الموسوم ب(( التحرير )) في الفقه ، فنظر فيه
وقال : له عيب واحد ! فقال : ما هو ؟ قال : عيبه أنه صنف بصور ولم يصنف ببغداد “

قلت : قال هذا لأن بغداد كانت دار العلم
آنذاك ، وفيها الصفوة من أهل العلم وهي مقصد طلابه الحريصين عليه لذا إذا عرض
المصنف بضاعته عليهم وأجازوه فقد جاز القنطرة ، وإلا أوقفوه على مواطن الخلل حتى
يجوزها

قال الخطيب في تاريخ بغداد (2/340) : أَخْبَرَنَا
أبو حازم العبدويي، قَالَ: سمعت محمد بن محمد بن العباس الضبي، يقول: سمعت أحمد بن
عبد الله بن محمد بن يوسف بن مطر، يقول: سمعت جدي محمد بن يوسف، يقول: سمعت محمد
بن إسماعيل البخاري، يقول: دخلت بغداد آخر ثمان مرات كل ذلك أجالس أحمد بن حنبل،
فقال لي في آخر ما ودعته: يا أبا عبد الله تترك العلم والناس وتصير إلى خراسان؟
قَالَ أبو عبد الله: فأنا الآن أذكر قوله.

فهنا الإمام أحمد يعاتب البخاري على تركه
لبغداد مدينة العلم آنذاك

وقال الحاكم في معرفة علوم الحديث ص451
:” ولم أستجز إخلاء هذا الموضع من ذكر مدينة السلام تعصبا لها ، إذ هي مدينة
العلم ، وموسم العلماء والأفاضل ، عمرها الله”

ومدينة السلام هي بغداد والحاكم نيسابوري
ومع ذلك يتعصب لمدينة السلام لما كانت مجمع الفقهاء والفضلاء

وقال ابن حزم كما في سير أعلام النبلاء (18/208)
:” أَنَا الشَّمْسُ فِي جُوِّ العُلُوْمِ مُنِيْرَةً … وَلَكِنَّ عَيْبِي
أَنَّ مَطْلَعِي الغَرْبُ

وَلَوْ أَنَّنِي مِنْ جَانِبِ الشَّرْقِ
طَالِعٌ … لَجَدَّ عَلَى مَا ضَاعَ مِنْ ذِكْرِيَ النَّهْبُ

وَلِي نَحْوَ أَكْنَافِ العِرَاقِ
صَبَابَةٌ … وَلاَ غَرْوَ أَنْ يَسْتَوحِشَ الكَلِفُ الصُّبُّ

فَإِنَّ يُنْزِلِ الرَّحْمَنُ رَحْلِيَ
بَيْنَهُمْ … فَحِيْنَئِذٍ يَبْدُو التَأَسُّفُ وَالكَرْبُ

هُنَالِكَ يُدْرَى أَنَّ لِلْبُعْدِ
قِصَّةٌ … وَأَنَّ كسَادَ العِلْمِ آفَتُهُ القُرْبُ “

فهنا ابن حزم يقول عن نفسه أنه شمس في جو
العلوم ولكن عيبه أن مطلعه في المغرب ، ثم يذكر صبابته نحو العراق وأنه يريد
الذهاب هناك وما أظنه يريد إلا بغداد وأحسب أنه لو ذهب هناك لقلمت أظفاره كما يقال
اليوم ، ولترك كثيراً من شذوذه وتجهمه وضلاله المبين  ولكن قدر الله وما شاء فعل

وقال ياقوت الحموي في معجم البلدان ( 1/335)
:” وكان أبو إسحاق الزجاج يقول: بغداد حاضرة الدنيا وما عداها بادية، وكان
أبو الفرج الببغا يقول هي مدينة السلام بل مدينة الإسلام فإن الدولة النبوية
والخلافة الإسلامية بها عششتا وفرختا وضربتا بعروقهما وبسَقتا بفروعهما وان هواءها
أغْذى من كل هواءٍ وماءَها أعذب من كل ماءِ وإن نسيمها أرق من كل نسيم وهي من
الإقليم الإعتدالي بمنزلة المركز من الدائرة ولم تزل بغداد موطن الأكاسرة في سالف
الأزمان ومنزل الخلفاءِ قي دولة الإسلام، وكان ابن العميد إذا طرأ عليه أحد من
منتحلي العلوم والآداب وأراد امتحان عقله سأله عن بغداد فإن فطن بخواصها وتنبه على
محاسنها وأثنى عليها جعل ذلك مقدمة فضله وعنوان عقله “

وما كتبت هذا عصبية لمحلة دون أخرى ،
وإنما أردت من هذا التنبيه على فضل كتاب الخطيب ( تاريخ بغداد ) الذي كان يقول الوادعي عنه ( حري أن يسمى تاريخ الدنيا ) ، وتحفيزاً لإخواننا البغاددة لإعادة
شيء من هذا المجد المفقود

وتنبيهاً على سقوط هذه المملكة العلمية
وأن شجرة العلم مهما بلغت من العلو يجب أن تتاعهد بالسقاية وإلا ذبلت أوراقها ويبس
أصلها وصارت سهلة القطع

هذا وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه
وسلم