عندما تدرك فضلهما متأخراً…

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

قال تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال ربِّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين} [الأحقاف].

هذه الآية أمرها عجيب في كشف عارض يعرض للنفوس البشرية ولا تدركه.

تأمَّل ذِكر الأربعين سنة في سياق الحديث عن بر الوالدين والإحسان إليهما.

عادة الأبناء -خصوصاً في هذا الزمان- أن تكون نفوسهم ملأى بالعتب على والديهم، أحسن الآباء أم أساءوا.

والبشر يفهمون نظيرهم وينحازون إليه، لاتحاد الرغبات والأهداف والمخاوف، لذا لا يفصِل بينهم إلا الوحي. 

فإذا بلغ المرء الأربعين واستشعر المسئوليات التي كانت منوطة بوالديه وإذا صار له ذرية أدرك ما كان يختلج في نفوسهم من مشاعر تجاهه. 

ويأتي ذلك مع النضج وذهاب شهوات الشباب ونزواته، فيفهم حال أبويه كما لم يفهمه من قبل.

وغالباً يختلط ذلك بندم على كلمات ندت في سياق عتب أو غضب، فلا يجد المرء سوى الدعاء إن لم يتمكن من الاعتذار ويدعو أن يصلح الله له ذريته وإن لم يفهموه. 

جاء الوحي ليرفع المرء إلى هذا المستوى من الفهم وإن كان في شبابه، فيعمل بمقتضى هذه المعرفة مِن بر، وإن لم يشعر بالأمر فإنه لا يشعر به كما ينبغي إلا عند النضج وتحمُّل المسئوليات. 

وفي هذه الحال حتى لو أدرك من والديه تقصيراً أو إساءة كانت نفسه أسمح بالعفو عنهما مع هذا الإدراك.