طوق النجاة (الأشاعرة جهمية ولكن ليسوا غلاة)…

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

كنت قد سجلت صوتية بعنوان: «هل تكفير السلف مختص بالجهمية المحضة» رداً على من زعم أن السلف إنما كفَّروا الجهمي الذي لا يثبت شيئاً من الصفات، فلا يُثبت علماً ولا حياةً ولا قدرةً ولا سمعاً ولا بصراً ولا كلاماً ولا علواً.

ويرى أنه بذلك قد رمى طوق النجاة للأشاعرة، للإفلات من طائلة كلام السلف الكرام.

والحق أن هذا متعذِّر جداً، فالسلف كفَّروا اللفظية، كما نص على ذلك ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» [12/421]، واللفظية خير من الأشاعرة، فالأشاعرة لفظية وزيادة، وقد نص أحمد على أنه لا يرى اللفظية مسلمين، كما في «السنة» للخلال (وله فيهم تفصيل، لكن هذا الحكم المطلق).

ونص ابن تيمية أيضاً على أن السلف كفَّروا منكر العلو، لأنه مخالف للمعلوم من الدين بالاضطرار، فقال في «الدرء» [7/27]: “ولهذا كان السلف مطبقين على تكفير من أنكر ذلك، لأنه عندهم معلوم بالاضطرار من الدين، والأمور المعلومة بالضرورة عند السلف والأئمة وعلماء الدين قد لا تكون معلومة لبعض الناس إما لإعراضه عن سماع ما في ذلك من المنقول”.

وعامة آثار السلف في تكفير الجهمية والتشنيع على من لا يكفِّرهم لا تذكر البتة أنهم ينفون القدرة والحياة والعلم والسمع والبصر، فلو كانوا يقصدون هؤلاء لما قالوا: “من قال القرآن مخلوق فهو كافر”، ولقالوا: (من قال الله ليس له أسماء وصفات فهو كافر).

قال ابن تيمية في «التسعينية» [1/284]: “قال الإمام الحافظ أبو القاسم الطبري اللالكائي- وقد ذكر أقوال السلف والأئمة بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وما ورد عنهم من تكفير من يقول ذلك، ثم قال: (فهؤلاء خمسمائة وخمسون نفسا وأكثر من التابعين وأتباع التابعين والأئمة المرضيين سوى الصحابة الخيرين على اختلاف الأمصار ومضي السنين والأعوام، وفيهم نحو من مائة إمام ممن أخذ الناس بقولهم وتدينوا بمذهبهم)”.

فهؤلاء الخمسمائة لم يتكلم أحد منهم عمن ينفي العلم والسمع والبصر والقدرة والحياة، وإنما تكلموا عمن يقول: (القرآن مخلوق) فحسب، وأشد منه منكر العلو، وهذا ما تلبس به متأخرو الأشعرية.

قال الدارمي في «الرد على الجهمية»: “ونكفرهم أيضا؛ أنهم لا يدرون أين الله، ولا يصفونه بأين الله، والله قد وصف نفسه بأين، ووصفه به الرسول ﷺ”.

هذا بعد أن ذكر تكفيرهم لإنكارهم الصفات، فدل على أن إنكار العلو مناط خاص لوحده.

قال ابن تيمية في «بيان تلبيس الجهمية» [3/535]: “فإن قيل هذا يبين أن مسألة العلو أظهر في الفطرة والشريعة من مسألة الرؤية فلأي شيء هؤلاء أقروا بهذه وأنكروا تلك قيل أن سببه أن الجهمية كانت متظاهرة بدعوى خلق القرآن وإنكار الرؤية ولم تكن متظاهرة بإنكار العلو كما تقدم”.

فهو هنا يصرح أن الجهمية الأولى التي أطلق السلف تكفيرها “لم تكن متظاهرة بإنكار العلو”، يعني لم يكونوا يظهرونه خوفاً من الناس، ومعلوم أن الأئمة جهَّموا اللفظية والواقفة والكلابية، وكلهم يثبت العلو، وقد ثبت عن أحمد وغيره من الأئمة تكفير أعيان لقولهم باللفظ أو خلق القرآن، فأمر العلو أشد، وهو غلو في التجهم بالنسبة لهؤلاء.

وأما قول ابن تيمية كما في «مجموع الفتاوى» [3/352]: “والمأثور عن السلف والأئمة إطلاق أقوال بتكفير “الجهمية المحضة” الذين ينكرون الصفات وحقيقة قولهم أن الله لا يتكلم ولا يرى؛ ولا يباين الخلق؛ ولا له علم ولا قدرة ولا سمع ولا بصر ولا حياة بل القرآن مخلوق وأهل الجنة لا يرونه كما لا يراه أهل النار وأمثال هذه المقالات”.

فقوله: “وحقيقة قولهم” يعني لازمه والذي لم يصرِّحوا به كله، لهذا قال: “حقيقة قولهم” كما في «بيان التلبيس» [3/673]: “يدل على ذلك أن هذا الرازي جعل مباينته لخلقه من جنس مباينته للحيز ولا يجب أن يكون موجودًا كما تقدم فعلم أنهم أثبتوا مباينته للعالم من جنس مباينة الموجود للمعدوم أو من جنس مباينة المعدوم للمعدوم والعالم موجود لا ريب فيه فيكونون قد جعلوه بمنزلة المعدوم وهذه حقيقة قولهم وإن كانوا قد لا يعلمون ذلك”.

وهذه آثار السلف أمامك لا يوجد فيها أي أثر يتكلم عن نفي الحياة والقدرة عن الله تبارك وتعالى، وعامة الآثار -كما تقدم في كلام اللالكائي- في القول بخلق القرآن فحسب، دون أي قيود أخرى، وكذلك من كفَّروا بقول جهم في الإيمان -الذي قال به كثير من الأشاعرة- ما اشترطوا لذلك مقالات أخرى، (وقد وصفه ابن تيمية بأنه قول المرجئة الغلاة)، وكذلك من كفَّروا الجهمية الأولى بالقول بفناء الجنة والنار معاً ما اشترطوا قولاً آخر للحكم عليهم بذلك، وإنكار الأسماء عند الجهمية هو القول بخلقها، وهذا قال به عامة الأشعرية المتأخرين.

وفي «السنة» للخلال عن إبراهيم بن الحارث: “قلت لأبي عبد الله: فمن قال: القرآن مخلوق، فقال: «لا أقول أسماء الله مخلوقة، ولا علمه»، ولم يزد على هذا، أقول: هو كافر؟ فقال: «هكذا هو عندنا»”.

فهنا كفَّره لقوله بخلق القرآن فقط، مع عدم إنكاره للعلم والأسماء (وقد قالت الأشعرية بذلك).