طغيان الإنسانوية أنتقص من قدر الله

في

,

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

المنظور الإنسانوي الذي طغى على نفوس كثير من الناس حتى المنتسبين للإسلام يفترض إحسان الظن بالإنسان الناقص ، وإساءة الظن بالإله الكامل وتشريعاته

لهذا يرون بعض التشريعات مخالفة للرحمة لأن الإنسان عندهم خير محض وأنه لا يقدم على عقيدة كفرية أو تصرف فيه رذيلة إلا من قناعة وشبهة

وهذا التصور الهش تفضحه شواهد الامتحان فالبشر فيهم دواعي خير وفيهم دواعي شر من شهوات ونحوها وقد تغلب على النفس شهوة تمنع من النظر إلى الحق على جهة الإنصاف

أو تزرع في النفس كبراً يكون سبباً لبطر الحق ( كما هو الحال في غالب أهل الكفر ) واليوم لو نظرت للناس في شأن مكارم الأخلاق لوجدت عامتهم يحسن القول ولكن إذا جئت إلى التطبيق حالت النوازع النفسية

والأمراض والشهوات دون التطبيق السليم

ولهذا حتى في السياقات العالمانية تجدهم إذا أرادوا أن يعالجوا ظاهرة سلبية يستخدمون ثلاثة وسائل الأولى : رفع مستوى الوعي بخطورة هذا الأمر ( وهذا ما يقابله الوعظ والتذكير عندنا ) الثانية : وضع تشريعات تحد من انتشار الأمر أو تعاقب عليه ( وهذا نظير الحدود والتعزيرات ولكن ضعفها في السياقات العالمانية معيب وإنما تقوى إذا كانت غرامات مالية في السياقات الرأسمالية )

الثالثة : سد الذرائع إليها وهذا الباب يضعف أداء العالمانيات الليبرالية فيها جداً لأن سداً الذرائع دائماً يقف دونه دعاوى الحرية المطلقة عندهم ولهم في ذلك تخبطات

غير أن هذه الاجراءات توحي بأن الإنسان ليس فقط أفكار بل أفكار وشهوات ونوازع وعليه فمن الرحمة به وضع عقوبات تكون في مقابل داعي الشهوة عنده يهدد بها أو يراها تقع في نظيره فيعتبر

وعليه فإن سخرية الشخص ممن يقول ( ديننا دين رحمة ) ثم يقر ( العقوبات ) سخرية تافهة ناشئة عن سطحية في التفكير خصوصاً وأن الحدود في الغالب كفارات

قال الغزالي في الأسنى :” فجوابك إن الطفل الصغير قد ترق له أمه فتمنعه عن الحجامة والأب العاقل يحمله عليها قهرا والجاهل يظن أن الرحيم هي الأم دون الأب والعاقل يعلم أن إيلام الأب إياه بالحجامة من كمال رحمته وعطفه وتمام شفقته وأن الأم له عدو في صورة صديق فإن الألم القليل إذا كان سببا للذة الكثيرة لم يكن شرا بل كان خيرا والرحيم يريد الخير للمرحوم لا محالة وليس في الوجود شر إلا وفي ضمنه خير لو رفع ذلك الشر لبطل الخير الذي في ضمنه وحصل ببطلانه شرا أعظم من الشر الذي يتضمنه فاليد المتآكلة قطعها شر في الظاهر وفي ضمنه الخير الجزيل وهو سلامة البدن ولو ترك قطع اليد لحصل هلاك البدن ولكان الشر أعظم وقطع اليد لأجل سلامة البدن شر في ضمنه خير ولكن المراد الأول السابق إلى نظر القاطع السلامة التي هي خير محض ثم لما كان السبيل إليه قطع اليد قصد قطع اليد لأجله فكانت السلامة مطلوبة لذاتها أولا والقطع مطلوبا لغيره ثانيا لا لذاته فهما داخلان تحت الإرادة ولكن أحدهما مراد لذاته والآخر مراد لغيره والمراد لذاته قبل المراد لغيره ولأجله قال الله عز وجل سبقت رحمتي غضبي فغضبه إرادته للشر والشر بإرادته ورحمته إرادته للخير والخير بإرادته ولكن إذا أراد الخير للخير نفسه وأراد الشر لا لذاته ولكن لما في ضمنه من الخير فالخير مقضي بالذات والشر مقضي بالعرض وكل بقدر وليس في ذلك ما ينافي الرحمة أصلا”

قال ابن_القيم :

فمن رحمة الأب بولده :

أن يكرهه على التأدب بالعلم والعمل
ويشق عليه في ذلك بالضرب وغيره

ويمنعه شهوته التي تعود بضرره

ومتى أهمل ذلك من ولده كان لقلة رحمته به
وإن ظن أنه يرحمه ويرفهه ويريحه

فهذه رحمة مقرونة بالجهل ، كرحمة الأم

[ إغاثة اللهفان ٢ / ٩١٥ ]

قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى )15/289) :” وذلك أن المحب العاشق وإن كان إنما يحب النظر والاستمتاع بصورة ذلك المحبوب وكلامه فليس دواؤه في أن يعطي نفسه محبوبها وشهوتها من ذلك لأنه مريض والمريض إذا اشتهى ما يضره أو جزع من تناول الدواء الكريه فأخذتنا رأفة عليه حتى نمنعه شربه فقد أعناه على ما يضره أو يهلكه وعلى ترك ما ينفعه فيزداد سقمه فيهلك وهكذا المذنب العاشق ونحوه هو مريض فليس الرأفة به والرحمة أن يمكن مما يهواه من المحرمات ولا يعان على ذلك ولا أن يمكن من ترك ما ينفعه من الطاعات التي تزيل مرضه قال تعالى: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} أي فيها الشفاء بل الرأفة به أن يعان على شرب الدواء وإن كان كريها: مثل الصلاة وما فيها من الأذكار والدعوات وأن يحمى عما يقوي داءه ويزيد علته وإن اشتهاه. ولا يظن الظان أنه إذا حصل له استمتاعوأكبر من ذلك بمحرم يسكن بلاؤه بل ذلك يوجب له انزعاجا عظيما وزيادة في البلاء والمرض في المآل فإنه وإن سكن بلاؤه وهدأ ما به عقيب استمتاعه أعقبه ذلك مرضا عظيما عسيرا لا يتخلص منه بل الواجب دفع أعظم الضررين باحتمال أدناهما قبل استحكام الداء الذي ترامى به إلى الهلاك والعطب ومن المعلوم أن ألم العلاج النافع أيسر وأخف من ألم المرض الباقي. وبهذا يتبين لك أن العقوبات الشرعية كلها أدوية نافعة يصلح الله بها مرض القلوب وهي من رحمة الله بعباده ورأفته بهم الداخلة في قوله تعالى {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} فمن ترك هذه الرحمة النافعة لرأفة يجدها بالمريض فهو الذي أعان على عذابه وهلاكه وإن كان لا يريد إلا الخير إذ هو في ذلك جاهل أحمق كما يفعله بعض النساء والرجال الجهال بمرضاهم وبمن يربونه من أولادهم وغلمانهم وغيرهم في ترك تأديبهم وعقوبتهم على ما يأتونه من الشر ويتركونه من الخير رأفة بهم فيكون ذلك سبب فسادهم وعداوتهم وهلاكهم. ومن الناس من تأخذه الرأفة بهم لمشاركته لهم في ذلك المرض وذوقه ما ذاقوه من قوة الشهوة وبرودة القلب والدياثة فيترك ما أمر الله به من العقوبة وهو في ذلك من أظلم الناس وأديثهم في حق نفسه ونظرائه وهو بمنزلة جماعة من المرضى قد وصف لهم الطبيب ما ينفعهم فوجد كبيرهم مرارته فترك شربه ونهى عن سقيه للباقين. ومنهم من تأخذه الرأفة لكون أحد الزانيين محبوبا له إما أن يكون محبا لصورته وجماله بعشق أو غيره أو لقرابة بينهما أو لمودة أو لإحسانه إليه أو لما يرجو منه من الدنيا أو غير ذلك أو لما في العذاب من الألم الذي يوجب رقة القلب. ويتأول: {إنما يرحم الله من عباده الرحماء} ويقول الأحمق: {الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء} وغير ذلك وليس كما قال بل ذلك وضع الشيء في غير موضعه بل قد ورد في الحديث {لا يدخل الجنة ديوث} فمن لم يكن مبغضا للفواحش كارها لها ولأهلها ولا يغضب عند رؤيتها وسماعها لم يكن مريدا للعقوبة عليها فيبقى العذاب عليها يوجب ألم قلبه قال تعالى: {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} الآية. فإن دين الله هو طاعته وطاعة رسوله المبني على محبته ومحبة رسوله وأن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما؛ فإن الرأفة والرحمة يحبهما الله ما لم تكن مضيعة لدين الله”

علما أن الشريعة تدفع بهذه العقوبة شرا أعظم يقع إذا غابت سواء على الفرد نفسه أو المجتمع والإنسان إذا استجاب لداعي الشهوة فهو مذموم ولكن الرحمة به أن يتم إضعاف هذا الداعي بعقوبة رادعة حتى يدخل في أهل الصلاح من باب الفضل أو تكون مجاهدة الهوى والشيطان في حقه أهون.