طرح الرازي يماثل طرح الملاحدة عن حملة العرش

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

لما طرح الرازي الإشكالات المعتادة للجهمية على وجود حملة للعرش _ واليوم يطرحها الملاحدة بكثرة _

قال ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية جواباً على هذا :” للناس في حملة العرش قولان:
أحدهما: أن حملة العرش يحملون العرش ولا يحملون من فوقه.
والثاني: أنهم يحملون العرش ومن فوقه كما تقدم حكاية القولين فيذكر ما يقوله الفريقان في جواب هذه الحجة فإنهم ينازعونه في المقدمتين جميعا.
فيقال من جهة الأولين: لا نسلم أن من حمل العرش يجب أن يحمل ما فوقه إلا أن يكون ما فوقه معتمدا عليه وإلا فالهواء والطير وغير ذلك مما هو فوق السقف ليس محمولا لما يحمل السقف وكذلك السماوات فوق الأرض وليست الأرض حاملة السماوات وكل سماء فوقها سماء وليست السفلى حاملة للعليا فإذا لم يجب في المخلوقات أن يكون الشيء حاملا لما فوقه بل قد يكون وقد لا يكون لم يلزم أن يكون العرش حاملا للرب تعالى إلا بحجة تبين ذلك وإذا لم يكن العرش حاملا لم يكن حملة العرش حاملة لما فوقه بطريق الأولى.
الوجه الثاني: أن الطائفة الأخرى تمنع المقدمة الثانية فيقولون لا نسلم أن العرش وحملته إذا كانوا حاملين لله لزم أن يكون الله محتاجا إليهم فإن الله هو الذي يخلقهم ويخلق قواهم وأفعالهم فلا يحملونه إلا بقدرته ومعونته كما لا يفعلون شيئا من الأفعال إلا بذلك فلا يحمل في الحقيقة نفسه إلا نفسه كما أنه سبحانه إذا دعاه عباده فأجابهم وهو سبحانه الذي خلقهم وخلق دعاءهم وأفعالهم فهو المجيب لما خلقه وأعان عليه من الأفعال وكذلك إذا فرح بتوبة التائب من عباده أو غضب من معاصيهم وغير ذلك مما فيه إثبات نوع تحول عن أفعال عباده فإن هذا يقوله كثير من أهل الكلام مع موافقة جمهور أهل الحديث وغيرهم: فيه مقامان مشكلان (أحدهما) مسألة حلول الحوادث (والثانية) تأثير المخلوق فيه وجواب “المسألة الأولى” مذكور في غير هذا الموضع وجواب “السؤال الثاني” أنه لا خالق ولا بارئ ولا مصور ولا مدبر لأمر الأرض والسماء إلا هو فلا حول ولا قوة إلا به وكل ما في عباده من حول وقوة فبه هو سبحانه فيعود الأمر إلى أنه هو المتصرف بنفسه سيحانه وتعالى الغني عما سواه.
وهؤلاء يقولون هذا الذي ذكرناه أكمل في صفة الغني عما سواه والقدرة على كل شيء مما يقوله النفاة فإن أولئك يقولون لا يقدر أن يتصرف بنفسه ولا يقدر أن ينزل ولا يصعد ولا يأتي ولا يجيء ولا يقدر أن يخلق في عباده قوة يحملون بها عرشه الذي هو عليه ويكونون إنما حملوه وهو فوق عرشه بقوته وقدرته: من كونه لا يقدر على مثل ذلك ولا يمكنه أن يقيم نفسه إلا بنفسه كما أنه سبحانه إذا خلق الأسباب وخلق بها أمورا أخرى ودبر أمر السماوات والأرض كان ذلك أكمل وأبلغ في الاقتدار من أن يخلق الشيء وحده بغير خلق قوة أخرى من غيره يخلقه بها فإن من يقدر على خلق القوى في المخلوقات أبلغ ممن لا يقدر على ذلك ولهذا كان خلقه للحيوان ولما فيه من القوى والإدراك والحركات من أعظم الآيات الدالة على قدرته وقوته قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}”

وهذا كلام نفيس غاية غاية

وأقول : فظاهر الكلام أن حملهم للعرش حمل تقرب لا احتياج لأن العرش مخلوق قبلهم ولو لم يكن في وجودهم سوى فائدة إبطال تأويل العرش بالملك التي درجت في كلام الجهمية لكفى بها فائدة

قال تعالى : ( الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم )

حين يقرأ المسلم هذا يرجو رحمة الله إذ أن الملائكة المقربين حملة العرش يستغفرون له

ويعتبر بذلك أنهم مع عظيم قوتهم التي مكنتهم من حمل العرش ما استغنوا عن بذل النفع للخلق وأعظم ما ينتفع به الناس تحصيل رضا الله بتكفير الذنوب بالتوبة والاستغفار لذا هم يستغفرون للعباد فنعلم مكانة الاستغفار وأنه لا غنى لنا عن ذلك وأن المرء مهما بلغ من التقوى والقرب من الله ينبغي أن يسأل المغفرة للناس ويرجو لهم الخير ولولا أن الملائكة تعلم أن الله يحب ذلك ما جعلوه دعاء دائما لهم

وإشارة أخرى أنهم مع ما لهم من القرب والقوة يدعون الله وما أذن الله لأحد أن يدعوهم أو يستغيث بهم وإذا كانوا قد علموا أن أعظم السعادة بيد الله فسألوه إياها فكل ما دونها أيضا بيده سبحانه وعبيده مهما بلغوا من القوة والقدرة والقرب منه فالله أرحم منهم سبحانه لهذا يقولون ( وسعت كل شيء رحمة وعلما ) وما من مخلوق له هذه الصفة بما فيهم حملة العرش وعليه لا يدعى ويرغب إليه ويستغاث به عند الملمات إلا الله عز وجل