شيء من إنعاش العقول
قال ابن تيمية في الرد على المنطقيين : ولا يجوز أن يكون الجميع نظريا لافتقار النظري إلى البديهي فيلزم الدور القبلي أو التسلسل في العلل التي هي هنا أسباب العلم وهي الأدلة وهما ممتنعان.
أقول: هذا كلام صعب على كثيرين ولكنني سأشرحه وأسهله قدر المستطاع لأنك إذا فهمته سيكون من اليسير عليك جدا فهم عيب العلموية أو المادية وكونها سفسطة محضة
أعني بالعلموية ذلك المنهج القائل أن العلم التجريبي هو السبيل الوحيد لمعرفة الحقيقة ويستخدمه الملاحدة لإسقاط حتى البديهيات العقلية لأن بها يستدل على الخالق وأمور غير مادية
فما علاقة كلام ابن تيمية بنقد منهج هؤلاء؟
الجواب أن خلاصة كلام ابن تيمية أن أي شخص يقول بأن الحقائق كلها نظرية بمعنى تحتاج بحثا ونظرا فإنه إما يقع في الدور القبلي أو التسلسل في المؤثرات وكلاهما ممتنع
طيب ما معنى الدور القبلي والتسلسل في المؤثرات وقبل ذلك ما معنى حقيقة نظرية؟
فأقول: النظرية هي التي تحتاج إلى بحث واستدلال ويقابلها البديهية
والعلم التجريبي الذي يدعي العلمويون حصر الحقيقة فيه هو علم نظري باتفاقنا واتفاقهم يحتاج إلى بحث واستدلال وله علماء ومؤسسات ربما يبحثون سنين طويلة ولا يقفون على شيء وبينهم خلافيات فهذا كله يدل على أنه نظري وليس بديهيا
وأما معنى دور قبلي وتوظيفها هنا فهو إن قلت البحث التجريبي هو السبيل الوحيد للحقيقة فإن استدللت على ذلك بمقدمات عقلية فقد نقضت قولك وإن استدللت على ذلك بالعلم التجريبي نفسه فهو نفسه لا يشهد بهذا الحصر نفسه والشهادة للشيء بنفسه هذا يسمى دور أو استدلال دائري
والماديون دائما يستخدمون هذا فتجدهم يقولون نظرية التطور علمية لأنها مادية محضة تفسر المادة بالمادة ونظرية التصميم الذكي ليست علمية لأنها تفسر المادة بالماوراء
فتقول لهم: ولماذا علينا أن نفسر المادة بالمادة فيقول لك لأن المنهج المادي هو الصحيح وربما يتواقح ويقول لك تفسيراتنا المادية ألغت الفلسفة (ويعنون بها الأدلة العقلية) علما أن تفسيراتهم ما كانت لتكسب الرهان لولا التحيز لها مبدأيا والتحيز ضد المقابل
فهذا دور تستدل بالمقدمة على النتيجة وبالنتيجة على المقدمة في آن واحد كمن يفسر الماء بالماء
وأما التسلسل في المؤثرات فهو توقف وجود الشيء على سلسلة لا بداية لها من الأسباب
مثل أن أقول لك لن تأخذ هذا المبلغ من المال حتى يأذن فلان وفلان لا يأذن حتى يأذن فلان وهكذا إلى ما لا بداية فيقينا لن تقبض هذا المال أبدا
فيستحيل أن تقبض وهناك سلسلة لا بداية لها من الأسباب يتوقف عليها قبضك فإذا قبضت المال فذلك يدل على أن السلسلة صار لها بداية ووصلنا عند فلان يأذن ولا ينتظر من غيره إذنا فَلَو أردت إقناعك أن المال الذي معك كان أخذك له مبنيا على سلسلة لا بداية لها من الأسباب المؤثرة فأنا إقناعك بالمستحيل
فما وجه ذكر التسلسل هنا؟
الجواب: أن البحث النظري إما أن يكون قائما على بديهة عقلية ( وهذا ما يحاول إنكاره العلمويون فإنهم إن آمنوا بالسبيية والغائية سيضطرون لتصحيح الدين ) وإما أن يكون قائما على نفسه وهذا دور لأن كونه نظريا معناه أنه مبني على أدوات وغاية ومقياس للصواب والخطأ وشهادته لنفسه هنا محالة ودور والا لاستوى البحث الصواب والخطأ لأن كل بحث يشهد لنفسه ولا يوجد معيار خارجي
فإن قيل: بل اعتمد على بحث نظري آخر فسنقول وعلى ماذا اعتمد الآخر وهكذا حتى ندخل في التسلسل المحال أو نسلم بوجود البديهيات التي لا تحتاج لاستدلال
إذن خذها قاعدة كل من حصر الحق في الأبحاث التجريبية النظرية إما يقع في الدور أو التسلسل في المؤثرات وكلاهما ممتنع وسفسطة ولَك أن تتخيل أن هذه السفسطة تقوم عليها مؤسسات كبرى ويروج لها حملة شهادات عالية ولله در الشيخ أوجز وأبدع.