شهادة عزيزة للتاج السبكي على قلة الأشعرية في أهل الإسناد
التاج السبكي صاحب طبقات الشافعية الكبرى المتوفى عام 771، أشعري شديد الحماس لأشعريته، من أشهر مؤلفاته طبقات الشافعية الكبرى.
قال في (1/ 314) : “وقال يزيد بن زريع لكل دين فرسان وفرسان هذا الدين أصحاب الأسانيد، فرضي الله عنهم، هم القوم بهم كمل الله النعماء، فأين أهل عصرنا من حفاظ هذه الشريعة أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان ذو النورين وعلي الرضا والزبير وطلحة وسعد وسعيد وعبد الرحمن بن عوف وأبي عبيدة بن الجراح وابن مسعود وأبي بن كعب وسعد بن معاذ وبلال بن رباح وزيد بن ثابت وعائشة وأبي هريرة“.
ثم بقي يسرد أهل الأسانيد في كل طبقة حتى وصل إلى زمانه فعد قرابة الـ 220 نفساً، وقال أنه لم يستوعب وإنما ذكر الأشهر.
ولوحظ في جمعه أنه لم يذكر أهل الرأي حتى المشتغلين بالحديث منهم، أمثال الطحاوي ولعله ذكر بعضهم وغَفلت عنه.
ولوحظ أيضاً أنه أهمل ذكر ابن القيم وابن عبد الهادي وابن المحب من الحنابلة، وذكر والده وكل منصف يعرف أن هؤلاء ألصق بعلم الحديث من والده.
ولم يذكر الأشعري والباقلاني والغزالي والرازي -ممن يعدهم مجددين- وأكابر المتكلمين، إذ معلوم أنه لا علاقة لهم بالإسناد والرواية.
ولما نظرت في الأشاعرة في جمعه فوجدت أنهم لا يبلغون العشرين نفساً مع خلاف شديد في بعضهم هل هو أشعري أم لا، ومنهم من هو أشعري على أشعرية المتقدمين لا أشعرية السبكي (وهذا عدهم في جميع الطبقات، بينما أحمد فقط فيها 17 علما كباراً في الفن).
ومن تدبر هذا وجد فيه عبرة عظيمة، فدائماً يقال لك (لا يوجد إسناد يخلو من أشعري) وهذا كذب، ومع ذلك الأشعري لا يروي إلا بإسناد فيه من هو حشوي على اعتقاده.
ويسرد لك أسماء علماء أشاعرة ويقول لك (هل هؤلاء على ضلال) فاسرد له أسماء نظراء لهم وقل له (إجماعاً هؤلاء على غير عقيدة أصحابك، والحق واحد فأحد الفريقين على هدى والآخر على ضلال).
وقد اعترف السبكي بمخالفة الأشعري للمتبوعين جميعاً في مسائل الاعتقاد.
فقال في (1/130) : “وإلى مذهب السلف ذهب الإمام الشافعي ومالك وأحمد والبخاري وطوائف من أئمة المتقدمين والمتأخرين، ومن الأشاعرة الشيخ أبو العباس القلانسي ومن محققيهم الأستاذ أبو منصور البغدادي والأستاذ أبو القاسم القشيري وهؤلاء يصرحون بزيادة الإيمان ونقصانه إلا الشافعي ومالكا أما الشافعي فلم يتحرر عنه فيهما نص ونقل جماعة ممن صنف في مناقبه عنه أنه يقول بأنه يزيد وينقص ولكن لم يثبت ذلك عندنا ثبوت بقية منصوصاته الموجودة في مذهبه، وأما مالك فعنه القول بالزيادة والنقصان وعنه أنه يزيد ولا ينقص وهو عجيب واعتذر عنه بعضهم فقال إنما توقف مالك عن القول بنقصان الإيمان خشية أن يتأول عليه موافقة الخوارج الذين يكفرون أهل المعاصي من المؤمنين بالذنوب“.
ثم قال: “وأما من يقول الإيمان التصديق كما هو رأي أبي حنيفة والأشعري رضي الله عنهما ويقول مع ذلك إنه غير الإسلام فالمشهور من مذهبه أنه لا يقبل الزيادة والنقص”.
أقول: الشافعي ومالك صح عنهما القول بزيادة الإيمان ونقصانه ورمي المخالف بالإرجاء.
قال ابن أبي حاتم في آداب الشافعي ومناقبه: “ثنا أبي، قال: سمعت حرملة بن يحيى، قال: اجتمع حفص الفرد، ومصلاق الإباضي، عند الشافعي في دار الجروي يعني: بمصر، فاختصما في الإيمان، فاحتج مصلاق في الزيادة والنقصان، واحتج حفص الفرد في أن الإيمان قول، فعلا حفص الفرد على مصلاق، وقوي عليه، وضعف مصلاق.
فحمي الشافعي، وتقلد المسألة، على أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، فطحن حفصا الفرد، وقطعه“.
وهذا إسناد صحيح غاية، وفي ذلك رد على السبكي، واعترف السبكي أن أحمد بتكفيره لتارك الصلاة غاير طريقة الأشعري.
وقال الصفدي في كتابه أعيان العصر وأعوان النصر، وهو يترجم لقاضي القضاة الطرسوسي الحنفي: “ونظم أبياتاً ذكر فيها الخلاف الذي وقع بين الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه وبين الشيخ أبي الحسن الأشعري رضي الله عنه”.
وذكر هذه الأبيات وفيها حط الحنفي على الأشعري، ووصفه بالإساءة، علماً أن المسائل التي ذكرها هي لأبي منصور الماتردي وليست كلها لأبي حنيفة.
فإذا كان كل المتبوعين بل كل أهل الحديث يخالفون عقده -بحيث أن مخالفتهم موافقة له وموافقتهم مخالفة له والكلام على العقيدة- ويصرح بعض أتباعه كالفاكهاني أن كل الحنابلة حشوية، وتجد عامة أهل الإسناد ليسوا على طريقته (فقد ذكر البخاري أنه سمع من ألف شيخ وأكثر، يقولون الإيمان قول وعمل يزيد وينقص، ولا شك أنهم مثبتة للصفات) وإنما كثروا في الأزمنة المتأخرة لما صار الإسناد للبركة لا للتصحيح والتضعيف.
فعلام يصير الكلام في أتباعه كلاماً (في علماء الأمة) !