شرح قصة (صدق الله وكذب ابن سينا)

في

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

شرح قصة (صدق الله وكذب ابن سينا)

قال الذهبي في تاريخ الإسلام (48/ 411_412): ” 527- الحسن بن محمد بن أحمد بن نجا.
الإربلي، الرافضي، المتكلم، الفيلسوف، العز، الضرير. كان بارعا في العربية والأدب، رأسا في علوم الأوائل. كان بدمشق منقطعا في منزله يقرئ المسلمين وأهل الكتاب والفلاسفة. وله حرمة وافرة وهيبة”.

ثم قال: “وذكر عز الدين ابن أبي الهيجا قال: لازمت العز الضرير يوم موته فقال: هذه البنية قد تحللت، وما بقي يرجى بقاؤها، واشتهي رز بلبن. فعُمل له وأكل منه، فلما أحس بشروع خروج الروح قال: خرجت الروح من رجلي، ثم قال: وصلت إلى صدري. فلما أراد الله المفارقة بالكلية تلا هذه الآية: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير). ثم قال: صدق الله وكذب ابن سينا.
ثم مات في ربيع الآخر، ودفن بسفح قاسيون. وولد بنصيبين سنة ست وثمانين وخمسمائة.
قلت: روى عنه من شعره وأدبه: الدمياطي، وابن أبي الهيجا، وشمس الدين محمد بن عبد القوي الحنبلي، وغيرهم.
وحكى ابن عبد القوي أنه سمعه يقول: أنا على عقيدة علماء الحنابلة”.

أقول: عادة ما يذكر الناس هذه القصة إلى حد قوله (صدق الله وكذب ابن سينا) ولا يفطنون لعلاقة إحساسه بخروج روحه بقوله (صدق الله وكذب ابن سينا) وكذلك تلاوته للآية.

وما ذكره الذهبي في آخر ترجمته من أنه رجع إلى عقيدة الحنابلة فقد يظن القارئ أن هذه أمور منفصلة عن بعضها، والواقع أنها كلها لها علاقة ببعضها وهي سياق واحد.

ومفتاح الأمر أن تعرف عقيدة ابن سينا في الروح وعلاقتها بعقيدة المتكلمين بذات الله عز وجل.

يعتقد ابن سينا أن الروح لا داخل البدن ولا خارجه وأنها لا توصف بحركة ولا سكون.

فالفلاسفة يعتقدون بوجود المجردات التي لا وجود لها لا داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليها ولا يمكن أن ترى (لا يراها البشر ولا غيرهم بل رؤيتها مستحيلة) فيعتقدون أن الله عز وجل كذلك لا داخل العالم ولا خارجه ولا يشار إليه ولا يسمع له كلام بحرف وصوت، وكذا عقيدة الفلاسفة في الروح.

قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى: “فالأول: قول “المتفلسفة” الذين يقولون: إن الروح لا داخل البدن ولا خارجه وإنها لا توصف بالحركة ولا بالسكون وقد تبعهم على ذلك قوم ممن ينتسب إلى الملة. فهؤلاء عندهم قرب العبد ودنوه إزالة النقائص والعيوب عن نفسه وتكميلها بالصفات الحسنة الكريمة حتى تبقى مقاربة للرب مشابهة له من جهة المعنى ويقولون: الفلسفة التشبه بالإله على قدر الطاقة؛ فأما حركة الروح فممتنعة عندهم. وكذلك يقولون: في قرب الملائكة. والذي أثبتوه من تزكية النفس عن العيوب وتكميلها بالمحاسن حق في نفسه؛ لكن نفيهم ما زاد على ذلك خطأ؛ لكنهم يعترفون بحركة جسمه إلى المواضع التي تظهر فيها آثار الرب كالمساجد والسموات والعارفين. وعند هؤلاء معراج النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو انكشاف حقائق الكون له كما فسره بذلك ابن سينا ومن اتبعه كعين القضاة وابن الخطيب في “المطالب العالية”.

فابن نجا الاربلي لما أحس بحركة روحه عند الخروج استيقن كذب ابن سينا وأن ما يصفه ابن سينا هو في حقيقته العدم وتلا الآية {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} إذ أن النصوص دالة على أن الروح لها مكان وتتحرك وتدخل وتخرج كما أن هذا النص دال على علم الله عز وجل بالجزئيات، والفلاسفة ينكرون ذلك ويقولون يعلم الجزئيات بعلم كلي.

فلما كان من بداية أمره لا يؤمن بالمجردات التي توصف بالذهن ولا وجود لها في الخارج فهي عدم مال إلى اعتقاد الحنابلة الذي هو اعتقاد السلف الذين يثبتون لله عز وجل الفوقية، فما كان لا داخل العالم ولا خارجه ولا يتصف بالحركة والسكون هو عدم لا وجود له.

نقل ابن بطة عن بعض أئمة السلف في الإبانة قوله: “فإذا قال القائل: نخلة علم السامع أن النخلة لا تكون إلا بهذا الاسم نخلة، فلو قال: نخلة وجذعها وكربها وليفها وجمارها ولبها وخوصها وتمرها كان محالا، لأنه يقال: فالنخلة ما هي إذا جعلت هذه الصفات غيرها؟ أرأيت لو قال قائل: إن لي نخلة كريمة آكل من تمرها غير أنه ليس لها جذع ولا كرب ولا ليف ولا خوص ولا لب وليس هي خفيفة، وليس هي ثقيلة، أيكون هذا صحيحا في الكلام؟ أوليس إنما جوابه أن يقال: إنك لما قلت: نخلة عرفناها بصفاتها، ثم نعت نعتا نفيت به النخلة. فأنت ممن لا يثبت ما سمى إن كان صادقا، فلا نخلة لك”.

قال ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية: “ولهذا يعترف هذا الرازي بأن النزاع بينهم وبين المعتزلة في الرؤية قريب من اللفظي، فعلم أن هؤلاء حقيقة باطنهم باطن المعتزلة الجهمية المعطلة وإن كان ظاهرهم ظاهر أهل الإثبات، كما أن المعتزلة عند التحقيق حقيقة أمرهم أمر الملاحدة نفاة الأسماء والصفات بالكلية وإن تظاهروا بالرد عليهم، والملاحدة حقيقة أمرهم حقيقة من يجحد الصانع بالكلية هذا لعمري عند التحقيق”.

فهذا الفيلسوف مثال لما قاله ابن تيمية كما في الفتاوى الكبرى: “ومن أحكم العلوم حتى أحاط بغاياتها رده ذلك إلى تقرير الفطر على بداياتها، وإنما بعثت الرسل لتكميل الفطرة؛ لا لتغييرها: {فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} [الروم: 30]”.

فهو فهم حقيقة مقالات الفلاسفة وأنها الإلحاد بعينه وتأثر المتكلمين بها، وكانت قد أثرت عليه عقدياً وسلوكياً فتركها ومال إلى الفطرة التي في ظواهر النصوص والتي يحتقرها أهل الكلام ويسمون أهلها حشوية.