هذه شبهة وجهت لي وأردت أن أكتب جواباً عليها؛ حتى أستغني عن الإجابة عليها في كل مرة أسأل عنها.
وقبل الدخول إلى عرض الشبهة لا بد أن يُعلم أن الأصل في الشبهات أنها لا تلقى إلى الناس، وتكون في الدرس العلمي؛ ولكن في زماننا بفعل انتشار الملاحدة وأشباههم صارت الشبهات تنتشر بين الناس في مواقع التواصل، فصار الأمر أشبه بالوباء الذي يحتاج تطعيماً.
والشبهة مفادها أن نزول الله -عز وجل- إلى السماء الدنيا يقتضي أن بعض مخلوقاته تكون فوقه، وهذه الشبهة يطرحها أصناف من الناس، فقد يطرحها الملحد وقد يطرحها منكر السنة وقد يطرحها الجهمي منكر النزول، وهذا الذي يكون الحوار معه هنا.
اعلم -رحمك الله- أن نزاع أهل السنة مع الأشعرية والماتريدية والمعتزلة في مسألة النزول هو فرع عن نزاعهم في الأفعال الاختيارية، فهذه الفرق كلها تنفي الأفعال الاختيارية لله -تبارك وتعالى- فهم ينكرون أنه يتكلم بما شاء متى شاء وأنه يفعل ما شاء متى شاء، فحتى مجرد الاقتراب ولو لم يكن نزولاً يرونه مستحيلاً، لأنه حلول حوادث يقتضي مقتضيات باطلة بزعمهم.
وغلاتهم ينكرون النزول وصعود الأشياء لله -عز وجل- واقترابها منه، لأنهم لا يثبتون له مكاناً من الأساس.
وعليه: لا تدخل في حوار خاص في مسألة النزول قبل أن تُقرِّر أصل فعل الله -عز وجل- لما شاء متى شاء وتَجدُّد الأفعال فيه سبحانه، وأنه الآن يسمع الخلق والآن يبصرهم، وأنه يقترب من الأشياء وأنه يجوز الاقتراب منه سبحانه وتعالى.
والخصوم عامتهم يقولون أموراً هي أبعد عن المعقول مما استشكلوه، فمنهم من يقول برؤية إلى غير جهة؛ ومنهم من يقول الله لا داخل العالم ولا خارجه؛ ومنهم من يقول بأنه خلق العالم بدون فعل اختياري قائم بذاته صدر منه وأن الفعل هو المفعول؛ وأما الزنادقة فكابروا كل معقول.
ولكنهم يأتون عند النصوص ويبدأون برمي هذه الإشكالات، وهذا من النفاق.
وقد أجاب ابن تيمية على هذه الشبهة في «شرح حديث النزول»:
قال الشيخ: “والقول الثالث -وهو الصواب وهو المأثور عن سلف الأمة وأئمتها-: إنه لا يزال فوق العرش، ولا يخلو العرش منه، مع دنوه ونزوله إلى السماء الدنيا، ولا يكون العرش فوقه. وكذلك يوم القيامة كما جاء به الكتاب والسنة، وليس نزوله كنزول أجسام بني آدم من السطح إلى الأرض، بحيث يبقى السقف فوقهم، بل الله منزه عن ذلك، وسنتكلم عليه إن شاء الله، وهذه المسألة تحتاج إلى بسط“.
ويعني الشيخ بالمروي عن السلف: ما ورد عن حماد بن زيد والفضيل بأنه يدنو من عباده وهو -سبحانه- في علوِّه.
وقال الشيخ أيضاً: “قال ابن أبي حاتم في [تفسيره]: حدثنا أبو زرعة، ثنا منجاب بن الحارث، ثنا بشر بن عمارة عن أبي روق، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي ﷺ في قوله سبحانه وتعالى: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار} [الأنعام: 103] قال: (لو أن الجن والإنس، والشياطين والملائكة؛ منذ خلقوا إلى أن فَنُوا صُفُّوا صفًا واحدًا ما أحاطوا بالله أبدًا)، فمن هذه عظمته، كيف يحصره مخلوق من المخلوقات، سماء أو غير سماء؟! حتى يقال: إنه إذا نزل إلى السماء الدنيا صار العرش فوقه، أو يصير شيء من المخلوقات يحصره ويحيط به -سبحانه وتعالى“.
وقال أيضاً: “فإن قيل: إذا كان الله لا يزال عاليًا على المخلوقات كما تقدم، فكيف يقال: ثم ارتفع إلى السماء وهي دخان؟ أو يقال: ثم علا على العرش؟ قيل: هذا كما أخبر أنه ينزل إلى السماء الدنيا ثم يصعد، وروى [ثم يعرج]، وهو -سبحانه- لم يزل فوق العرش، فإن صعوده من جنس نزوله. وإذا كان في نزوله لم يصر شيء من المخلوقات فوقه، فهو -سبحانه- يصعد وإن لم يكن منها شيء فوقه“.
وقال أيضاً: “عن النبي ﷺ أنه كان يقول: “اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء”، وهذا نص في أن الله ليس فوقه شيء، وكونه الظاهر صفة لازمة له مثل كونه الأول والآخر، وكذلك الباطن، فلا يزال ظاهرًا ليس فوقه شيء، ولا يزال باطنًا ليس دونه شيء“.
والخلاصة أن من نسب لأهل السنة اعتقاد أن شيئاً فوق الله -عز وجل- فقد كذب، وأن حديث النزول لا يفهم بمعزل عن النصوص الأخرى، وأنه دنو واقتراب دون أن يقع لازم ينافي العلو، مع ثبوت فعل اختياري كالوارد في عموم النصوص مما ينكره الجهمية ويلبسون على العامة أنهم ينكرون معنى خاصاً في خبر النزول فحسب، وهم لنفيهم العلو والفعل الاختياري ينكرون أنه يقترب من الأشياء أو تقترب الأشياء منه -تعالى الله عما يقولون- فذاك وصف العدم.